يتحسس المثقفون من القيود التي تمس حرية التعبير، ولهم الحق في ذلك، لأن هذا الحق الأصيل يميز الإنسان عما سواه من الكائنات. ومن دون هذا الحق يتحول الإنسان إلى كائن مقموع. لكن لا بد من قانون يحمي هذا الحق، وفي الوقت نفسه يجرم الفلتان الذي يحدث باسم حرية الرأي والتعبير. أصبح هناك من يستغل الفضاء المفتوح للتحريض على العنف والكراهية وتقسيم المجتمعات وإثارة النعرات والفتن والخروج عن القانون. والنتيجة أنه كلما تم ردم مستنقع للعنف والإرهاب ظهر مستنقع آخر، وكلما قُطع غصن نبت آخر، وجرى احتواء جيل من المتطرفين، برز جيل آخر. فما زالت منابت الفكر المتطرف خصبة وأرحامه ولادة وحواضنه عامرة. أصبحنا نشاهد التحريض على القتل والإرهاب والازدراء والكراهية ونشر الفوضى على شاشات التلفزيون في قنوات تبث من بيننا. وينبري مثقفون لتزييف الوعي وتمريغ ذكائنا في الوحل حين يسوغون مثل هذه الأعمال ويضعونها في قوالب جهادية..! من قال إن الكلمات التي تكتب هنا وهناك لا تأثير لها، أو إن الخطابات المنبرية بريئة من كل هذا الدمار الذي يلف عالمنا اليوم..؟ قبل أكثر من عقد من الزمان خرج علينا كتاب خطير يكشف مضمونه من اسمه، هو «إدارة التوحش»، لمؤلف يعتقد أنه مجرد اسم حركي هو «أبو بكر ناجي»، وهو يقوم على نظرية تدعو لمزيد من التخريب من أجل «استدراج» العدو (أميركا) لأرض المعركة التي يختارها المجاهدون، وهي للأسف أرضهم..! لعب هذا الكتاب دورا محوريا في تشكيل وعي الجماعات المتشددة، والتي انتهجت الإرهاب، وكان عبارة عن مجموعة مقالات نشرت على مواقع الإنترنت، ولم يلتفت الكثير وقتها إلى أن هذا الفضاء يمكنه أن يبث فكرا تفجيريا لا يقل خطورة عن أسلحة الدمار المستخدمة ضد الآمنين. كانت تلك الأدبيات توصم المجتمع بأنه «جاهلي»، وهو ما يعزز انفصالها عنه والالتحاق بـ«الجماعة» النقية، وفي السياق التاريخي كان الإخوان المسلمون سباقين في رجم المجتمعات العربية المسلمة بوصف «مجتمع جاهلي»، ثم شيئا فشيئا برزت نظرية «الحاكمية» بوابة الدخول للتكفير، ومن بعدها «الجهاد» الذي يشرع استخدام العنف الأعمى. هذا الفكر المتطرف الذي يتوسل بالإرهاب لم يتم تجفيف منابعه الفكرية، على الرغم من أن هناك محاولات جادة لاحتوائه وترويضه. لكن ما دام المعين الفكري لا يزال متوفرا فإنه «لن ينتهي الإرهاب ما دمنا نقطف الثمار ونترك الجذور ترتوي لتنبت أجيالا أخرى تحمل نفس الفكر وذات المبادئ»، على رأي الكاتب في هذه الصحيفة، عبد الله بن بجاد العتيبي. أمام هذا الانفلات في الخطاب الذي يعزز الكراهية والاحتراب والخروج على النظام العام وتعريض وحدة البلاد وتماسكها للخطر، لا بد من تفعيل القانون، لكي يعرف كل خطيب منبر، أو مذيع، أو كاتب، أن الحرية مسؤولية، وأن حرية التعبير المقدسة ليست غطاء مطاطا يخفي تحته كل الكراهيات المنفلتة. ويعي كل صاحب منبر يظن أنه لا سلطة فوق ما يقول أن القانون سلطة عليا تحاسب وتجرم، وتفتح الباب أمام المتضررين لملاحقته أمام قضاء نزيه وعادل وشفاف.
مشاركة :