خمسون عامًا على الدبلوماسية البحرينية (1)

  • 1/22/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

خمسون عاما مضت على الدبلوماسية البحرينية.. خمسون عاما من العمل الدبلوماسي والسياسي الشاق والدقيق الذي قاده سمو الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة.. أب الدبلوماسية البحرينية في ظروف غاية في التعقيد والأهمية، لدولة وجدت نفسها فجأة على أبواب الدخول لعالم الدبلوماسية السياسية والصراعات الدولية والإقليمية في اروقة الامم المتحدة وما كان يشهده العالم آنذاك بما يسمى «الحرب الباردة» التي كانت صراعا قائما بين الرأسمالية والشيوعية لبسط النفوذ والسيطرة على العالم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وهو صراع لم يزل بين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة والمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد الروسي، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في 26 ديسمبر 1991. في تلك الفترة المتوترة في العلاقات الدولية والأوضاع غير المستقرة في البلاد العربية بسبب الانقلابات العسكرية على الانظمة القائمة، أعلن صاحب السمو الملكي الامير خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء في 14 أغسطس عام 1971 بيان استقلال البحرين، الذي دخلت فيه البحرين مرحلة جديدة من تاريخها الحديث والمعاصر والذي دار حوله جدل كبير. فلقد جاء استقلال البحرين متزامنا مع سلسلة من الاستقلالات التي شملت عددا من إمارات الخليج العربية مثل: قطر وأبوظبي ودبي وبقية الإمارات الصغيرة، الا إنه استقلال يختلف من حيث السياق والحيثيات والخلفيات والقوى الفاعلة والمؤثره فيه، وهذا يعود إلى طبيعة الوضع الجيوسياسي الخاص للبحرين والمشاكل التاريخية المترتبة على هذا الوضع بسبب الادعاءات الإيرانية التي بدأت بشكل رسمي في المذكرة السياسية المرفوعة من إيران لعصبة الأمم المتحدة عام 1928، الا ان الموقف الايراني بدأ بالتحول منذ عام 1968 لأسباب كثيرة يتعلق معظمها بالوضع السياسي للداخل الإيراني وبالظروف الإقليمية المحيطة، خاصة الموقف السعودي بعد الاجتماع الذي عقد نهاية عام (1968) في جدة بين شاه إيران والملك فيصل بن عبدالعزيز حيث تمت مناقشة موضوع البحرين بعد الانسحاب البريطاني واتفاق الطرفين «على إيجاد حل لمشكلة البحرين التي تشكل عقبة في طريق استقرار الخليج وأمنه». لقد اتضحت تطورات هذا الموقف من خلال تصريحات شاه ايران في عام 1969 بنيودلهي التي أكد فيها ولأول مرة قبول ايران «لأي شيء يعبر عن رغبات شعب البحرين، وذلك تمسكا بمبدأ عدم اللجوء إلى القوة». وفي إطار تلك الأحداث والتطورات المتسارعة في المنطقة وتداعيات الإعلان عن الانسحاب البريطاني عام 1968 الى شرق السويس، تم إنشاء المكتب السياسي في أواخر عام 1969 وعين سمو الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة رئيسا للمكتب الى جانب عمله مديرا لمكتب العلاقات العامة لحكومة البحرين (وزارة الاعلام فيما بعد) وقد كان مقر المكتب السياسي في ساحة مكتب المستشار البريطاني بمنطقة رأس رمان بالمنامة. وكان عبارة عن عدد قليل من الكبائن والموظفين الذين لا يتجاوزون أصابع اليد منهم، الأستاذ غازي بن محمد القصيبي خريج الحقوق من جامعة القاهرة وهو اول موظف يعين بالخارجية الذي اصبح بعدها مديرا للمراسم وسفير البحرين بواشنطن ووكيلا للخارجية، والأستاذ ابراهيم علي ابراهيم الموظف المسؤول بمكتب العلاقات العامة الذي كان يقع في الدور الثاني من مبني مطعم الـKFC الحالي في باب البحرين والذي اصبح بعدها مديرا للشؤون القانونية ومديرا للمراسم وسفيرا في عدد من العواصم مثل طهران والقاهرة، وأنا الذي كنت مولعا بالكتابة السياسية والشعر منذ الصغر وذلك بعد انهيت دراستي الثانوية للتو من المدرسة الثانوية بالمنامة وعملت كاتبا بعد اجتيازي امتحانا تحريريا أجراه لي الأستاذ ابراهيم علي ابراهيم، وشفهيا بعد مقابلة قصيرة بسمو الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة رئيس دائرة الخارجية آنذاك حيث أصبحت وبعد ان نلت شهادتي الجامعية سكرتيرا لسموه، وكان لي عدد من المحطات في عملي الدبلوماسي، أهمها مدير الإدارة العربية ومدير مجلس التعاون وسفيرا لدول مجلس التعاون لدى الاتحاد الأوروبي في عاصمة الاتحاد الأوروبي ببروكسل عام 2000 ثم وكيل وزارة الخارجية للشؤون الإقليمية ومجلس التعاون عام 2008. ومن أوائل السيدات اللاتي عملن «بالمكتب السياسي» أيضا ليلى عبدالرسول خلف، التي تعتبر اول امرأة بحرينية تعمل بالسلك الدبلوماسي، وكانت وظيفتها سكرتيرة لسمو الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة رئيس المكتب السياسي ووزير الخارجية فيما بعد، الا انها نقلت -بناء على طلبها- بعد ذلك سكرتيرا ثانيا في الدائرة السياسية، وفي فترة قصيرة لاحقة انضم لدائرة الخارجية كل من المرحوم الشيخ عبدالرحمن بن فارس آل خليفة الذي تقلد عدة مناصب بالوزارة، أهمها مدير المراسم ومدير الشؤون الإدارية والمالية، وعين سفيرا في بلاط صاحبة الجلالة ببريطانيا العظمى وسفيرا بالولايات المتحدة الامريكية، والأستاذ علي ابراهيم المحروس الذي تقلد عدة مناصب بالوزارة وعين سفيرا في لندن وباريس ومن ثم عين وزيرا للأشغال. وبعدهم بفترة قصيرة التحق بالخارجية السفير كريم ابراهيم الشكر الذي تقلد عدة مناصب دبلوماسية منها المندوب الدائم في مقر الامم المتحدة بنيويورك وسفيرا في المملكة المتحدة ومندوب البحرين الدائم في مقر الامم المتحدة بجنيف، وسفيرا في الصين لينتهي به المطاف وكيلا بالخارجية للشؤون الدولية. وفي نفس الدفعة تحضرني اسماء كل من المرحوم نبيل ابراهيم قمبر الذي عين مديرا للمراسم ورئيسا للمراسم الملكية بعدها، وعادل يوسف العياضي الذي عين سفيرا للبحرين في الجمهورية التونسية. كانت البدايات صعبة وكان الطريق طويلا للبحرين التي واجهت مع بدء التحركات السياسية والدبلوماسية لاستكمال الاستقلال ولأول مرة وبعد عقود طويلة من الحماية البريطانية الطويلة منذ توقيع اول معاهدة للصداقة مع بريطانيا عام 1820، أحداثا مصيرية ومطالبات وادعاءات باطلة تمس مباشرة سيادتها الوطنية وارثها الحضاري المشرق وتاريخا امتد لأكثر من ثلاثمائة عام للحكم الخليفي للبحرين وتوابعها. الا ان السياسة الحكيمة التي انتهجتها قيادتها السياسية وعلاقاتها الوثيقة بعدد من دول الخليج وعلى وجه الخصوص السعودية والكويت-التي كانت وسيطا لمفاوضات جنيف السرية- وعلاقاتها الخاصة مع بريطانيا العظمي، كانت عوامل مهمة ساعدت على حسم الأمور وأدت الى اعلان استقلال البحرين وقبولها عضوا بالأمم المتحدة في اغسطس عام 1971 ليرتفع علمها الخليفي الأحمر والأبيض خفاقا في لحظة تاريخية فارقه مع مجموعة إعلام الدول الأعضاء بالأمم المتحدة، في احتفال شهده سمو الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة وزير الخارجية، وسعادة الدكتور سلمان الصفار اول مندوب دائم للبحرين لدى الأمم المتحدة. وكما قلت بأن السياسة الحكيمة بعيدة المدى التي انتهجتها القيادة السياسية في البحرين، كانت سببا وراء استكمال الاستقلال وحماية السيادة الوطنية والمكتسبات التاريخية التي تتلخص في النقاط التالية: اولا: بعد اعلان بريطانيا الانسحاب لشرق السويس في عام 1968 والفراغ الأمني الذي سوف يسببه هذا الانسحاب المفاجئ من الإمارات الصغيرة على سواحل الخليج العربي والمواجهة المتوقعة بالقوى الكبرى في المنطقة كالعراق وإيران وبأطماعهما على مدى التاريخ، وجدت البحرين بانه لابد من ايجاد تكتل يجمع هذه الامارات الصغيرة، فكانت فكرة تشكيل الاتحاد التساعي لمواجهة تلك التهديدات والأخطار المحدقة بالدول الخليجية الجديدة، فتم التفاهم على بحث إمكانية قيام الاتحاد التساعي بين الامارات السبع (ابوظبي، دبي، الشارقة، الفجيرة، عجمان،أم القيوين ورأس الخيمة) والبحرين وقطر، الا ان المفاوضات الطويلة التي جرت بين الامارات الصغيرة وقلة الخبرة السياسية وعدم إدراك التهديدات والمخاطر، أدت الى فشل قيام الاتحاد بسبب الخوف من التهديدات الإيرانية ومطالباتها الباطلة بالبحرين. ثانيا: تحركت البحرين نحو استكمال الاستقلال منفردة -كما فعلت قطر- وقامت بالخطوات الدبلوماسية التالية: 1- البعد الدولي: قام حضرة صاحب العظمة المغفور له الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة حاكم البحرين وتوابعها، وصاحب السمو الملكي الامير خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء بزيارات رسمية لعواصم الدول الكبرى (فرنسا، بريطانيا والولايات المتحدة) لكسب تأييدها ودعمها لاستقلال البحرين التي أكدت جميعها على أهمية تفاهم البحرين وديا مع ايران لحل المشكلة القائمة بين البلدين لترسيخ دعائم الامن والسلم والاستقرار في هذه المنطقة المهمة؛ نظرا لان السيطرة على النفط تعني ضمان استمرار عمل الآلة الصناعية والآلة العسكرية الغربية معا، واصبح النفط الخليجي محورا للصراع الدولي، كما أصبح من المهم ضمان استقرار منطقة الخليج العربي لضمان تدفق النقط وإمداداته عبر خطوط الملاحة الدولية في اعالي البحار. 2- البعد الإقليمي: المفاوضات السرية الشاقة التي اجراها صاحب السمو الملكي الامير خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء، وسمو الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة نائب رئيس الوزراء مع كبار الساسة الإيرانيين في جنيف، وانتهت بالاتفاق على ارسال لجنة من الأمين العام للأمم المتحدة برئاسة الإيطالي «ونسبير» لاستطلاع رغبات شعب البحرين، وانتمائهم العربي للامة العربية والتي قدمت تقريرها في مايو 1971 الذي انهى الادعاءات الإيرانية في البحرين وديا وعبر الوسائل الدبلوماسية. 3- البعد الخليجي: التنسيق مع السعودية والكويت في جميع الخطوات التي تم اتخذها لتحقيق استكمال الاستقلال، هذا الموقف والدعم الخليجي الذي كان له دور بارز ومهم في وقف الادعاءات الإيرانية التي كانت تبحث عن مخرج دبلوماسي يحفظ ماء الوجه أمام الشعب الايراني، فكان الاتفاق على تشكيل اللجنة الأممية التي ترأسها الدبلوماسي الإيطالي ونسبير، كما قدمت الكويت دعمها للمبتعثين الدبلوماسيين البحرينيين وتدريبهم قبل فتح السفارات البحرينية بالخارج. 4- البعد العربي: قام سمو نائب رئيس مجلس الوزراء الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة وزير الخارجية آنذاك بزيارات مكوكية لدول القرار والتأثير العربي وهي الجمهورية العربية المتحدة والجمهورية العربية السورية والجمهورية العراقية، حيث استقبله الرئيس جمال عبدالناصر، الذي اكد له دعم مصر للبحرين وعروبتها واستقلالها وتأييدها في الامم المتحدة والمحافل الدولية، كما أكد له كل من الرئيس السوري حافظ الأسد والرئيس صدام حسين رئيس الجمهورية العراقية دعمهما للبحرين وتحركاتها الدبلوماسية واتصالاتها وسيادتها وعروبتها، ولو انهم شككوا في النوايا البريطانية. لقد كان لتلك الاتصالات الواسعة والتحركات الدبلوماسية السريعة دور مهم في إنهاء الادعاءات الإيرانية الى الأبد وتأكيد عروبة البحرين واستكمال استقلالها الناجز الذي اقره مجلس الامن الدولي بالإجماع في جلسة تاريخية، لتؤكد البحرين منذ ذلك اليوم التزامها بمبادئ ومواثيق الأمم المتحدة التي آمنت بها ومارستها دائما لحل خلافاتها ومشاكلها الثنائية بالطرق السلمية مع الدول الشقيقة والصديقة في اقليم الخليج العربي، واقامة علاقات صداقة مع المئات من دول العالم الحر قائمة على الاحترام المتبادل والسيادة الوطنية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. وللمقال بقية..

مشاركة :