خمسون عامًا على الدبلوماسية البحرينية (3)

  • 2/5/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

واجهت الدبلوماسية البحرينية بعد عشر سنوات من تواجدها الفاعل والإيجابي على الساحتين العربية والدولية تطورات خطيرة في منطقة الخليج العربي هددت أمنها واستقرارها، وكان أهمها نجاح الثورة الخمينية وسقوط النظام الشاهنشاهي في طهران الذي لم يكن أحد يتوقع انهياره السريع. وأذكر أنني كنت في طهران قبيل سقوط نظام الشاه بعدة أسابيع في فبراير 1979 ضمن الوفد الرسمي لصاحب السمو المغفور له الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة أمير دولة البحرين. وبقراءة للمواقف الخليجية السياسية تجاه إيران بعد الثورة وبعد قيام مجلس التعاون عام1981 نلاحظ وجود تباين واختلافات في المواقف تجاهها، وذلك خلال مسيرة مجلس التعاون، فهناك من يرى أن إيران «دولة صديقة» كما أعلنت قطر أكثر من مرة كان آخرها في خطاب أمير دولة قطر أمام الدورة السبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك عندما ذَكر أن.. (الخلافات مع إيران هي خلافات سياسية إقليمية عربية إيرانية وليست سنية شيعية، وهذا يمكن حله بالحوار والاتفاق على القواعد التي تنظِّم العلاقات بين طهران ودول الخليج على أساس عدم التدخل في الشؤون الداخلية..)، ولدى سلطنة عمان علاقات صداقة ذات طابع خاص مع إيران بسبب دور القوات الإيرانية في قمع ثورة ظفار في أواخر الستينيات، أما دولة الكويت فلا ترى مشكلة في علاقاتها مع إيران رغم ما تم الكشف عنه خلال العام قبل الماضي من ضبط كميات هائلة من الأسلحة المهربة في قضية ما يعرف بـ(خلية العبدلي) وما لدى إيران من قوة سياسية دينية على الشيعة الكويتيين الذين أصبحوا قوة لا يستهان بها في نسيج المجتمع الكويتي، أما الإمارات العربية المتحدة وعلى الرغم من الاحتلال الإيراني لجزرها الثلاث فلها مع إيران علاقات تجارية على مستوى كبير من التطور التي بدأت تأخذ توجهًا جديدًا في السنوات الأخيرة خاصة فيما يتعلق بالاحتلال الايراني لجزرها الثلاث. بالنسبة للمملكة العربية السعودية ومملكة البحرين فوضعهما مختلف عن بقية دول المجلس نظرًا لما تعانياه من تآمر وتدخل في شؤونهما الداخلية وقيام الحجاج الإيرانيين بتنظم المظاهرات في الحج والتنسيق مع المواطنين الشيعة الموالين لإيران فيهما في تهريب الأسلحة والمتفجرات وتدريب ودعم العناصر الإرهابية لزعزعة الأمن والاستقرار وإثارة النعرات الطائفية في كلا البلدين. وأمام هذه المواقف السياسية المتباينة لدول مجلس التعاون البعيدة كل البعد عن الحد الادني الذي تطالب بعه البحرين تجاه ايران في كل الاجتماعات، أضع القارئ أمام أهم الأحداث التي واجهتها الدبلوماسية البحرينية في تلك الفترة الحرجة من تاريخها: أولاً: ثورة الخميني وقيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية: أدى استكمال استقلال البحرين عام 1971 وسقوط المطالبات الإيرانية بالبحرين الى فتح صفحة جديدة في العلاقات البحرينية الإيرانية بالتوقيع على جملة من الاتفاقيات التجارية والاقتصادية والاستثمارية وترسيم الحدود البحرية كاتفاقية الجرف القاري وتبادل الزيارات الرسمية التي قام بها المغفور له صاحب السمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة وصاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء التي حددت أطر تلك العلاقة القائمة على الثقة المتبادلة واحترام السيادة الوطنية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. إلا أن تلك العلاقات المتميزة بين البلدين تحولت الى حالة من عدم الثقة والتوتر والحذر بعد قيام النظام الجديد. لقد أدى نجاح ثورة الخميني عام 1979 في طهران بسبب الدعم الغربي والامريكي، الى قيام أول دولة شيعية في الشرق الاوسط بعد سقوط الدولة الفاطمية في مصر عام 1171 ميلادي التي عززت القومية الفارسية ورفعت شعارات المظلومية للشعوب المضطهدة وحمايتها وقامت باستغلال القضية الفلسطينية ودعم حماس ضد الحكومة الفلسطينية الشرعية بقيادة الرئيس محمود عباس، واعتبر الخميني ثورته عالمية وشاملة لحل مشاكل العالم، ووصفها (بالإسلامية) لتحريك مشاعر شيعة الخليج العربي وتأجيج الفتن والانقسام وتهديد كل الدول العربية المجاورة وعلى رأسها دول الخليج العربي وتحديداً المملكة العربية السعودية، التي نجحت في التصدي للمد الفارسي طوال العقود الماضية، كما شكلت تحالفًا عربيًا ضد ايران وفي اليمن التي تدور على أراضيه حرب بالوكالة يقوم بها الحوثيين العرب الشيعة لتحقيق أهداف وأطماع ايران التوسعية. وكانت البحرين كما كان يخطط لها الخميني وقياداته، الجسر الذي تصور بأنه سيعبر عليه لتحقيق الحلم الفارسي في قيام الدولة الإسلامية الشيعية الكبري. ولا بد من الاعتراف هنا بأن ثورته نجحت في تحول ملموس للمشهد السياسي البحريني الذي تراجع فيه دور القوى الوطنية السنية والشيعية التي كان تشكل دائمًا جبهة وطنية واحدة متضامنة في العديد من القضايا التي واجهت الوطن في الخمسينيات والستينيات، وبرزت في مقابلها حركات وقوى الإسلام السياسي الشيعي والسني الممنهج والمنقسم على نفسه وتعاظم دور رجال الدين في الحياة السياسية الذي انعكس على تعيينات مجالس الشورى والانتخابات النيابية، كما عادت الى السطح الادعاءات الإيرانية القديمة في البحرين وظهرت في صيغة قومية عبّر عنها عدد من النواب في البرلمان الايراني وتناولتها الصحف الإيرانية في مقالات حماسية مثيرة. وشهدت التدخلات الإيرانية في البحرين إصرارًا مستغربًا واشكالاً مختلفة قبل وبعد أحداث 2011، استغلت فيه جهازها الدبلوماسي في البحرين للتنفيذ، كما عملت على استغلال المدرسة الإيرانية والبنوك الإيرانية التي كانت في البحرين قبل الثورة لتحقيق أهدافها الخبيثة في زعزعة الأمن والاستقرار، وزادت شدة ووقاحة هذه التدخلات إبان الأحداث المؤسفة عام 2011 التي احتوتها الدبلوماسية البحرينية بهدوء وحكمة بسبب حساسية الموقف والتوتر الشديد الذي تمر به العلاقات بين البلدين، فكانت لي شخصيًا بصفتي مسؤولاً عن ملف الشؤون الإقليمية ومجلس التعاون عدد من الاجتماعات السرية مع السفير والقائم بالاعمال الايراني في البحرين لتسليم عدد من مذكرات الاحتجاجات الدبلوماسية ضد التصرفات الإيرانية في الشأن الداخلي البحريني التي كان منها اعتباره شخصًا غير مرغوب فيه في البحرين، كما تم سحب السفير البحريني في فترة لاحقه وإغلاق كل أعمال السفارة البحرينية في طهران حتى يومنا هذا. ثانيًا: الحرب العراقية الإيرانية: واجهت الدبلوماسية البحرينية تهديدات مباشرة بسبب الموقف الخليجي السياسي والاقتصادي المؤيد للعراق ضد ايران، الذي استفاد منه العراق بدعم وصل الى ثلاثة مليارات دولار سنويًا لعدة أسباب أهمها: أ- الدعاية الإيرانية القائمة على تصدير المذهب الشيعي ومبادئ الثورة الخمينية التي تنص عليه مواد الدستور الايراني. ب- تمسك ايران باحتلال الجزر الاماراتية الثلاث رغم بوادر حسن النوايا والرغبة التي أبدتها دول الخليج في إقامة علاقات صداقة وحسن جوار قائمة على الاحترام المتبادل. ج- اشتداد الخلاف بين العراق وايران حول ترسيم الحدود خاصة في منطقة شط العرب المطلة على الخليج العربي الغنية بالنفط. ثالثًا: قيام مجلس التعاون: لقد أدركت الدبلوماسية البحرينية دائمًا أهمية العمل الخليجي المشترك وأهمية التنسيق الخليجي لما يجري حولهم من تهديدات وأخطار تتطلَّب التماسك والتضامن والاتحاد الذي بات حاجة أمنية وسياسية واقتصادية ملحّة في ظل التطورات الخطيرة والأوضاع الأمنية الراهنة التي تشهدها دول الجوار الإقليمي وتهديدات التنظيمات الإرهابية للأمن في دول المجلس، وما يتطلبه ذلك من ضرورة إرساء قواعد جديدة للتعاون السياسي والأمني والاقتصادي وزيادة الاندماج الشعبي لمواطني دول المجلس، بما يحقق نمواً في المنافع والمصالح المشتركة ودرء الأخطار والتهديدات المحيطة والمتوقعة إلى حين التوصل إلى الصيغة المناسبة للأمن الإقليمي في المنطقة، فكانت للبحرين رؤى عميقة وأفكار للاتحاد الخليجي: أ- فكرة تأسيس مجلس التعاون: بعد أن فشل الاتحاد التساعي بين الامارات السبع والبحرين وقطر، ونظرًا لإيمان المغفور له صاحب السمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفه أمير دولة البحرين بضرورة وحدة الخليج في منظومة واحدة لدرء الأخطار والوقوف صفاً واحداً أمام التهديدات المحيطة بهم، أوفد سموه الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة وزير الخارجية آنذاك الى الرياض لطرح فكرة تأسيس مجلس او اتحاد يضم دول الخليج العربي على الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود طيب الله ثراه، الذي عبَّر عن مباركته للفكرة إلا انه طلب أن تعرض على أمير الكويت الراحل المغفور له الشيخ جابر الأحمد الصباح الذي أيدها وطلب من سمو الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة بحثها مع نظيره وزير الخارجية الكويتي صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح أمير الكويت الحالي. وقد تم تشكيل لجنة ضمت عددًا من الأكاديميين برئاسة السفير عبدالله يعقوب بشارة مندوب الكويت الدائم لدى الامم المتحدة التي أنيط بها إعداد النظام الأساسي لمجلس التعاون وتم التصديق عليه في ابوظبي في مايو 1981. وقد تم إقناع العراق - الذي كان يعتبر نفسه دولةً خليجية ويحق له أن يكون عضوًا في المجلس - بعدم الدخول في مجلس التعاون في هذه المرحلة لأسباب منها حربه القائمة مع ايران، وإن تأسيس المجلس سيكون داعمًا له لوجستيًا وماليًا في الحرب الدائرة مع ايران. وقد أطلق عليه (مجلس التعاون) تأكيداً للعراق بدور هذا المجلس في الاهتمام فقط بالعمل الخليجي الاقتصادي والتجاري المشترك وإبعاد أية صفة سياسية عنه. ثانيًا: رؤية جلالة الملك 2008 لتفعل العمل الخليجي للوصول للاتحاد: عرض جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة رؤية جديدة للتعاون الخليجي المشترك عالجت الكثير من القضايا التي تنصبّ في تطوير مجلس التعاون وتفعيل أداءه على مستوى العمل الخليجي المشترك لاستكمال المواطنة الخليجية، ووضع الخطط العملية والاستراتيجيات ووسائل تنفيذها على المستويات الأمنية والدفاعية والعسكرية، وكيفية التعامل بسياسة خليجية موحَّدة أمام التهديدات والأخطار التي تحدق بدول الخليج كإيران والحوثيين وانعكاسات الأزمة السورية والأزمة اليمنية، وصياغة التعاون المستقبلي مع المجموعات الاقتصادية. وقد وافق المجلس الاعلى في ابوظبي عام 2009 على الرؤية التي أطلق عليها (رؤية مملكة البحرين). مما سبق ذكره يتضح للقارئ بعض مما واجهته البحرين من قضايا إقليمية شائكة والإنجازات التي تحققت بعد مرور خمسين عامًا والدور المهم الذي قامت به الدبلوماسية البحرينية بقيادة سمو الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة نائب رئيس الوزراء ومعالي الشيخ خالد بن أحمد آل خليفه وزير الخارجية. لذلك فإن إطلاق صاحب الجلالة الملك المفدى اسم «سمو الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة» على المعهد الدبلوماسي، تقدير عظيم.. من ملك عظيم لمكانة سمو الشيخ محمد بن مبارك العالية وإنجازاته الكبيرة في الميدان الدبلوماسي منذ تأسيس وزارة الخارجية. أنهي سلسلة مقالاتي الثلاثة التي استعرضت فيها أبرز محطات الدبلوماسية البحرينية عبر خمسين عامًا بمسك الختام من كلمة معالي الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة وزير الخارجية أمام صاحب الجلالة الملك المفدى بهذه المناسبة، راجيًا أن أكون قد وفقت في تسليط الضوء على تاريخ وزارة الخارجية العريق ودورها الرائد في العمل الدبلوماسي الذي كنتُ جزءًا منه: «إن ما تحقق من نجاحات على مدى نصف قرن من الزمان جاء بفضل ما توفره الدبلوماسية البحرينية على امتداد تاريخها من مقومات النجاح من قادة يضعون المواطن في قمة أولوياتهم ويسعون بكل جهد لتحقيق النهضة وتحقيق التقدم والازدهار، ومن شعب واعٍ ومتحضر يؤمن بالتعايش والانفتاح والتواصل مع جميع الشعوب والثقافات..».

مشاركة :