لوحات الأردني محمد العامري تحتفي بالمكان الأول

  • 2/11/2015
  • 00:00
  • 12
  • 0
  • 0
news-picture

ربّما كان لبلدة «القليعات»، وهي إحدى القرى الشّمالية في غور الأردن، أثر كبير في ولادة لوحات المعرض الجديد، للفنان والشاعر محمد العامري، والمُقام في «رواق المشرق» في مدينة عمّان. أمّا «القليعات» هذه التي يشقّ نهر الأردن جسدها الريفي الفائر بالأزهار، وتتلألأ بالقرب منها تلال فلسطين وسماؤها المجنّحة، فهي القرية التي ولد وتربّى فيها الفنّان العامري، ولذلك فهي تبدو في اللوحات كأرض للغواية والسّحر. لوحات المعرض هي بشكل أو بآخر، محاولة للذّهاب إلى أرض الطفولة تلك، والقبض على الظلال الآسرة والرّوائح الحرّيفة للأمكنة والموجودات، التي طواها الزّمن. أمّا تلك الأمكنة والموجودات، فلا تكبر ولا تكتهل كما يحدث مع الكائن، وإنما تبقى تُشِعّ بتلك الطّاقة العظيمة التي لا تنفد. تغتبط أعمال العامري بالمكان الأوّل، الذي لا يعود مجرّد مكان للإقامة، بقدر ما يصبح سحابة سائلة بالسّحر! التّفاصيل والأشياء الحميمة تفقد أشكالها التقليدية المتداوَلَة، وتتقدّم لتسبح في المشهد الجديد، بتلك الأجنحة النورانية الباذخة. هنا تهجم الذّكريات على الفنّان، وتزدحم العناصر تالياً في لوحته في بناء لذِّي، وتشكيل يولَد للمرّة الأولى: في هذه الأثناء، ربّما نرى حجراً طائراً، مزقته سماء تأخذ مكانها على الأرض، وتجاور الأشجار والبيوت، عيناً تنبثق فجأةً من ثنايا التّراب، وتنفتح على آخرها لتتأمّل المشهد، غيوماً حمراء وخضراء وزرقاء تندلع من مكان ما في اللوحة كأنّها أحلام لكائنات وموجودات تتنفّس وتغتبط بالحياة. ما يفعله العامري هنا، هو نوع من أسطرة المكان، حيث تتجرّد الأشياء من أشكالها وروائحها لتنزلق في فضاء اللوحة بأشكالها الجديدة ومذاقها المختلف. عن هذا التّحوّل الذي يطرأ على عناصر المكان، يقول العامري: «التمرين الذي أمارسه، هو مجموعة محاولات لمحو ما أعرفه عن المرئي. المحو هو التحدّي الحقيقيّ لي كفنّان، وهو أصعب بكثير من تذكر الأشياء وحفظها، إيماناً منّي بأنَّ الإبداع والخلْق الجديد يجب أنْ يمكثا في الإضافة، والإضافة نقيضها التقليد، الإضافة تأتي بالنسيان؛ نسيان ما اختُزِن في الذّاكرة من صور وأشكال كي تنتج أشكالك الخاصّة، من هنا أرى أنّ التّأويل منطقة مهمة وخطرة لمناكفة الجاهز في المحيط المرئيّ، والفكاك من المنجز المتحقّق هو التخييل والمحو والتأويل، الفكاك منه فعل خلاّق كونه فعل إضافة وليس فعل تبعية». في أرض اللوحة، تبهرنا تلك البيوت المضاءة في أعماقها، والتي تبدو مثل جراح غائرة في لحم التراب. هنا نجد النّاس لا يقيمون في تلك البيوت المتعارف عليها والقائمة فوق الأرض، وإنّما هم مندغمون في تفاصيل وطبقات الأرض السفلية أيضاً، كأنهم جزء منها. أمّا التّراب في اللوحات، فقد أصبح شفّافاً، وتتلألأ في أعماقه الأشياء، كأنّه مرآة هائلة للعالم المحيط. ثمّة غبطة عارمة تندلع في اللوحات، وتدعو المشاهد ليتخفّف من حمولته الثقيلة من الكوابيس، ويندغم في صفاء اللحظة، ليعيش تجلّيات الخيال الذي يبتكر العالم من جديد. إنها متاهة اللذّة العظيمة، وإشراقة الحلم. من هنا جاء اسم المعرض، «حبّ صوفي»، ليؤكّد حالة الوجد التي تضطرم في روح الفنّان، وهو يسكب النّور والظلال في أرض اللوحة، ويحتفل بالعالم: «ما أفعله في اللوحة، جغرافيا خلاقة، جغرافيا من العواطف لا تشبه سوى أرض للعيش»، يقول العامري، ويواصل: «جغرافيا موشاة بالعلامات الصغيرة، علامات تقودنا نحو العشب الرطب، علامات تأخذك إلى ممشى العشق، ممشى الحصى اللامع بحضوره، الكريم بألوانه، المتلصّص على انسحاب ظلاله، الصافي في النور». ما يمكن أن نلاحظه في الأعمال المعروضة، هو تلك الحركة الدّائبة لعناصر اللوحة، والضّجّة التي تطغى على المَشاهِد المرسومة! ما يعطي لمُطالع اللوحة انطباعاً بأنّه لا يقف أمام عمل فنّي، بقدر ما يقف بين يديّ الطبيعة المتحوّلة والصّادحة بالأصوات. ولعلّ هذا التّصوّر متأتٍّ من كثافة العناصر التي حشدها الفنّان، ودفع بها لتسبح في فضاء اللوحة، وتختلط وتضجّ وتترنّح! مثل هذه الحركة تفتح عين المُشاهد على التّاويل الذي أشار إليه الفنّان، وتجعله يشرد عبر مخيّلته، ليبتكر عدداً كبيراً من اللوحات، من خلال اللوحة الواحدة التي يتأمّلها. يتّضح من الأعمال المعروضة، قدرة الفنّان على تطويع أدواته في سبيل خدمة عمله التشكيلي، سواء على مستوى المشاهد البانورامية التي أبدعها، أو على مستوى القلق والتحوّل الذي يسكن اللوحات. بقي أن نشير إلى الروح الطفولية التي تسكن الأعمال، والتي استطاع الفنّان من خلالها اللعب بعناصر الواقع المنظورة، وتحويلها إلى أرض فردوسية. لعلّ العودة إلى الطفولة بما تختزنه من حرية ومغامرة، واحدة من أهمّ المشاغل التي تتكئ عليها تجربة الفنّان محمد العامري. أمّا الطفولة التي نقصدها هنا، فهي الطفولة المدرّبة التي كان قد سهر عليها الفنّان، وربّاها طوال مشروعه الطويل. على مساحة اللوحة، ترفرف يد الفنّان الطفل، تلعب بالظلال تارةً وبالنور تارةً أخرى. تغمس أصابعها في عماء اللون، لتبتكر وتمحو ما تشاء من العناصر. في عدد من اللوحات، نرى مزاج الفنّان - الطفل واضحاً، من خلال الخطوط الناحلة والخربشات، التي يلجأ إلى كتابتها الأطفال عادةً في كراريسهم المدرسية، أو على أسطح الجدران. لم تعد اللوحة إذن تلك المساحة المهندمة المنشّاة، المنظورة للمشهد الجاهز الذي يتكرر، بقدر ما أصبحت فضاءً للعب الحرّ والطيران. وهذا ما نراه في لوحة العامري، حيث الطفل الذي فيه يتمرّد على المألوف ويعيد ابتكار العالم.

مشاركة :