النزعات الأصولية بين منهج اختزالي وتديّن بدائي

  • 2/11/2015
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

على رغم التباين الإسمي بين الأديان/ الشرائع التوحيدية الثلاث، ثمة ملمح مشترك يجمعها، يتمثل في تلك التيارات الأصولية الحاضرة فيها، بهذا القدر أو ذاك من القوة، وفق السياق التاريخي. كل هذه التيارات تشترك، بدورها، في هيمنة النزعة الاختزالية عليها، ومن ثم فهمها الانتقائي لهذا الدين أو ذاك، أي لتاريخه الطويل، وموروثه المركب، الذي ينطوي على تجارب متعددة ومختلفة وربما متناقضة، لكل منها سياق ودلالة، تسعى القراءة الأصولية إلى محو كليهما ليسهل لها إعادة تفسير عقيدتها في الاتجاه الذي تريد، حيث يدعي الأصوليون جميعاً قدرتهم (وحدهم) على استعادة الجوهر المؤسس لمعتقداتهم، وإعادة تجسيد النموذج الأصلي للحياة الذي انطلق منه، ومن ثم بلوغ الغاية التي استهدفها في حركة سيره التاريخي، وهو الأصل الذي يتوجب دوماً العودة إليه كلما أراد أتباعه استعادة انطلاقتهم الفتية نحو غايتهم الرئيسية. وهكذا تبدو القراءة الأصولية للنصوص الدينية مستقبلية في جوهرها، وإن بدت ماضوية في ظاهرها، فالأصولي عينه على المستقبل، أما الماضي فهو مجرد وسيلة، مخزن لأفكار ومقولات جاهزة يستطيع الاستعارة من بينها، ومخبأ لسيوف ورماح يستطيع السحب منها ليرمي بها مخالفيه في: الاعتقاد، الطائفة، المذهب. هذا المبدأ الانتقائي نجده حاضراً لدى الأصوليين اليهود في تأكيدهم خيريّتهم المطلقة لدى يهوه قياسا إلى الأغيار، والتي يستعينون لإثباتها بما ورد في سفر التثنية من آيات تدعو إلى إبادة هؤلاء الأغيار المفتقدين لأي فضيلة. وفي الوقت نفسه يتجاهلون ما ورد في الإصحاح الثامن من السفر نفسه، من أن الله لم يختر العبرانيين إلى الأبد، بل اختارهم كما اختار الكنعانيين من قبلهم، عندما كانوا أحباراً يخدمون الله بوازع ديني، ولكنه تخلى عنهم بسبب حبهم للشهوات، وفساد عبادتهم. ولذا فقد حذّرهم موسى «وإن نسيت الرب إلهك وذهبت وراء آلهة أخرى وعبدتها وسجدت لها، أشهد عليكم اليوم أنكم تبيدون لا محالة. كالشعوب الذين يبيدهم الرب من أمامكم كذلك تبيدون، لأجل أنكم لم تسمعوا لقول الرب إلهكم» (تثنيه، 8: 19- 20). كما يذهب الأصوليون إلى التمسك بالآيات التي تحضهم على التعامل الأخلاقي الانتقائي، بتوخي العدل والإحسان تجاه اليهود الآخرين، والتغاضي عن ذلك مع الأغيار، كما جاء في سفر الخروج من تحريض على المصريين، لمجرد أنهم أغيار، بينما يتجاهل هؤلاء الدعوة إلى الإحسان وفعل الخير مع الجميع والتي وردت مثلاً في سفر المزامير، إذ يقول كاتبها إن «الرب قريب من جميع دعاته الذين يدعونه بالحق» (مز، 144: 18). وأن «الرب صالح للجميع ومراحمه على كل صنائعه» (مز، 32:15). والفهم الاختزالي نفسه نجده حاضراً لدى الأصوليين المسيحيين الذين يتوسعون في الاقتباس من سفر الرؤيا (آخر أسفار العهد الجديد) ويجدون في رؤيا نهاية العالم وما تبثه من عنف إلهاماً وحافزاً للتعاطف مع الأصوليين اليهود، وتبريراً للتغاضي عن العدوانية الإسرائيلية، وفق العقيدة قبل الألفية القائلة إن سيطرة إسرائيل على القدس وإعادة بناء الهيكل اليهودي يمثّل بشارة لعودة المسيح، وبداية المعركة الفاصلة مع الشر. ولكنهم، في المقابل، نادراً ما يشيرون إلى موعظة الجبل حيث يطلب المسيح من أتباعه أن يحبوا أعداءهم وأن يديروا الخد الأيسر لمن يضربهم على الخد الأيمن وألا يدينوا الآخرين وهي البشارة التي نقلها عنه القديس متى: «سمعتم أنه قيل: تحب قريبك وتبغض عدوك. وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم. وصلَّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم» (متى، 5: 43 - 44)... «سمعتم أنه قيل: عين بعين وسن بسن. وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر أيضاً. ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضا» (متى، 5: 38 - 41). أما الأصوليون المسلمون، فيكادون لا يجدون في القرآن الكريم سوى آيات الحاكمية التي يعيدون تفسيرها وتأويلها على النحو الذي يمنحهم حق تكفير الناس من أهليهم، كمقدمة لإباحة دمائهم وأعراضهم وأموالهم على نحو ما نرى. أو آيات الجهاد التي تبرّر لهم ممارسة العنف ضد غير المسلمين، متجاهلين ليس فقط أسباب نزول الآيات، واختلاف سياقاتها، والعلاقة التي تقوم بين هذه السياقات على أساس قاعدة الناسخ والمنسوخ، بل وأيضاً الروح العامة للنص القرآني التي تحضّ على السلام والتعاون بين الناس، تحفيزاً لجهودهم في البناء والعمران بمقتضى عهد الاستخلاف الإلهي للإنسان، والذي يضم جميع البشر وليس معتنقي دين بذاته، بل ويرى الإسلام ديناً عاماً ينضوي تحت مظلته جميع المؤمنين بالرسل والأنبياء السابقين. في هذا السياق يهمل الأصوليون المسلمون القيم الإنسانية الباهرة التي صنعت التجربة الإسلامية الأولى كحضارة شاهقة ودولة فتية انطلقتا معاً، من مجتمع مثالي تمّ تدشينه من يثرب التي صارت المدينة المنورة بحضور النبي الكريم (ص) إليها، لتصير شاهداً على أكثر نماذج التفاعل الإنساني طهرانية ربما في التاريخ، والممثلة في عهد المؤاخاة، الذي تمّ فيه اقتسام البيوت والأموال والزوجات بين المهاجرين والأنصار، وهو أمر يبدو مستحيلاً وفق مقتضيات الفطرة الإنسانية في حالتها العادية التي لا تطيق هذه القسمة ولو بين الإخوة الأشقاء، ولكنه صار أمراً ممكناً وفق فطرة جديدة (سامية) ذات خصائص استثنائية صاغتها الفورة الروحية الطاغية لدين جديد كان بمثابة عصر تحرير حقيقي للإنسانية. وهكذا تتبدى الهوّة الساحقة بين سلوك نبي كان رسولاً مبلّغاً لدعوة دينية، وحاكماً مؤسساً لدولة وليدة، وهو يحنو على الصغير والكبير، ويأمر بالإحسان إلى أهل الكتاب من اليهود والمسيحيين، يعاهدهم ويحترم عهوده معهم رغم قدرته على إبادتهم، كما كان يحترم الروح الإنسانية حتى في الحرب مع الأعداء، كما تؤكد السنن وتتوالى الأخبار. وبين أمراء الحرب المعاصرين الذين اختزلوا الإسلام في فكرة الجهاد، ثم اختزلوا الجهاد في الكفاح البدني والقتال العسكري، ثم نزعوا عن هذا القتال نفسه كل أخلاقية متمدينة ليصير عملاً وحشياً، يمارسونه في غير موضعه، ويؤذون به غير المعنيين به، وينتهكون من خلاله كل القواعد التي وضعها الشرع له، فيزنون بالسبايا من أبناء الوطن، ويقتلون الشيوخ والأطفال، ويريقون دماء الأسرى، ويمثّلون بالجثث، وغير ذلك مما يجسّد الوحشية في أقصى تجسداتها، والهمجية في أبلغ صورها. ناهيك عن مظاهر السلوك النفعي والانتهازي لدى ممارسي السياسة من بين أنصار التيارات المتأسلمة، كالجماعة الإخوانية، إذ يختزلونها في أقبح وجوهها، وهو القدرة على المراوغة والكذب وخداع الآخرين، وما يصاحب ذلك من فحش القول أحياناً وازدراء الوطن أحياناً أخرى، والتعالي على المواطنين الآخرين من شركاء العقيدة والغلظة مع المخالفين فيها، أحايين كثيرة. وهكذا يتأكد لدينا أن تلك المظاهر التي تمارس تحت لافتة الأصولية لا يمكن أن تنسب إليها في معناها الجوهري كحاضنة للجذور/ الأسس التكوينية، التي صاغت التجربة الإسلامية الأصلية، لمجرد تغطيتها بنمط لباس معين أو مظاهر سلوك خارجية تشبه تلك التي كانت سائدة عند بدايتها، بل يمكن نسبتها حقيقة إلى الروح البدائية (الجاهلية) السابقة على الإسلام، حيث ساد ذلك اللباس وتلك المظاهر، لدى أعداء الإسلام الأوائل الذين حاربوه بوحشية قبل انتصاره عليهم، أي إلى تلك الأشكال الأولية، والقوالب الظاهرية المحيطة بالتجربة الإسلامية الأولى التي يدعون انتسابهم إليها، وليس إلى لباب التجربة وجوهرها الباطن نفسه. والمؤكد هو أن الأشكال والقوالب هي محض قشور لازمت ظاهرياً لحظة بداية العقيدة في مسار التاريخ، أما اللباب التي صنعت التجربة ذاتها، بكل تمدنها وجاذبيتها وقدرتها على الذيوع والانتشار، فهي القيم الأخلاقية الرفيعة، والنزعة الإنسانية التحررية الكامنة في العقيدة نفسها. وإذا كان جوهر التجربة الأولى قد نهض على التضحية والفداء، والتسامي على الضغائن والترفّع عن الصغائر، فإن الأصولية الحقّة تعني استعادة هذه القيم الآن، وبثّها في القوالب التاريخية المعاصرة التي نحيا فيها وبها. أما رفض هذه القيم الجوهرية المؤسسة، واستعارة الروح الجاهلية بدلاً منها، مع اللباس والقوالب المرتبطين بها فليس إلا نزوعاً إلى (البدائية) كحالة حضارية راكدة (إنسانياً)، أو إلى الجاهلية كحالة تاريخية مريضة (عربياً)، ومن ثم يمكن الإدعاء بأن نمط التدين العربي المعاصر، الموصوم بالتطرف والعنف، والذي يغطي على خواء باطني يزخر بالطمع والأنانية والدنيوية الشديدة، إنما هو النقيض المنطقي للأصولية، إنه بالتحديد روح بدائية تورّطت في استدعاء أشكال للحياة صارت متقادمة بفعل حركة التاريخ التي لم تتوقف قط عن إنتاج الجديد، بينما فشلت في استدعاء الجواهر الخالدة، المتعالية على التاريخ، القادرة دوماً على تأسيس الضمير وعمارة الروح. أخيراً يتوجب التأكيد على أن الدين التوحيدي هو بطبيعته ضد البدائية التي طالما ارتبطت بالوثنية، وأن الإسلام خصوصاً ذو جوهر تقدمي، ينحاز للعقل الإنساني الذي هو علة لعهد الاستخلاف الإلهي، كما ينحاز للحرية التي هي علة لحق الاختيار الإنساني، أي للشروع الطوعي في الممارسة العملية لبنود هذا العهد نفسه. فمن دون كائن عاقل حر، قادر على طبع أثره في الوجود المادي ولكن عبر قيم روحية يهتدي بها، وسنن كونية يلتمسها، لا يكون ثمة معنى للإيمان التوحيدي، ولا حتى للوجود الإنساني برمته. لكن، وفي المقابل، ثمة (تديّن بدائي)، يستسهل الحياة في جلباب السابقين متصوّراً أنه يمنحه سمواً على الآخرين، فيما لا يعدو الأمر أن يكون كسلاً في الإرادة وجموداً في الرؤية، هروباً من التديّن العميق، الذي يفرض على صاحبه كفاحاً أبدياً ضد رغباته الآثمة ونزوعاته العدوانية، وتدريباً دائماً على محبة الآخرين والإحسان إليهم، وامتلاكاً خلاّقاً لكل ما تتيحه حركة التاريخ من أدوات، وحركة العقل من كشوفات

مشاركة :