«الراتب ما يكفي الحاجة» .. مناقشة هادئة

  • 10/2/2013
  • 00:00
  • 16
  • 0
  • 0
news-picture

جاءت التغريدة الأشهر، لأن الناس واقعون تحت موجة تضخم قوية، دون أن تواكبها زيادة مماثلة في الدخول الحقيقية، والموجة التي تجتاحنا منذ أواسط العقد الماضي، جاءت بعد سنوات طويلة من الركود أو ما يشبه الركود في الأسعار. وتزامن مع هذه الموجة تمتع المالية الحكومية بفوائض مالية كبيرة تراكمت منذ أواسط العقد الماضي، وفي الوقت نفسه يلاحظ اتساع شقة الفروق الداخلية بين طبقات المجتمع. تهدف هذه المقالة إلى توضيح متعلقات وقضايا ذات صلة بالمطالبات بزيادة رواتب موظفي الحكومة، خلاف الغلاء والتضخم، ويُفترض أن تفهم هذه المتعلقات والقضايا جيدا. الغلاء مبرر قوي ومنطقي للمطالبة بزيادة الدخول، لكن لا يصلح الاقتصار عليه وحده. تجاهل المتعلقات والأوضاع والتبعات والآثار المستقبلية، والاقتصار على مبرر الغلاء، أشبه ما يكون، في نظري، بسلوك الأولاد مع الأب في عائلات كثيرة، حيث ينفرد الأب بالقرار، وهم يركزون على تحقيق رغباتهم، غير آبهين بكيفية وتبعات ذلك، وكان الأولى الاشتراك في مناقشة الرغبات وفي تبعات القرار. كثير من الذين يبدون رأيا في الموضوع، يجنحون للتبسيط الزائد في عرضه من جهة، ويجهلون أو يتجاهلون بعضا مهما جدا من التبعات والآثار من جهة أخرى، غالبا لأنها لا تعجبهم. وحين يستشهدون بما يؤيد رأيهم، يتغاضون عما لا يؤيد، وهذا مُتوقَّع، فالإنسان أناني بطبعه يحب المال حبا جما، لكن الموضوعية تقتضي ذكر الحسنات والسيئات، ومواضع القوة والضعف في الطرح، وإذا لم يتملك الإنسان الحس الموضوعي، وما أكثر من ينطبق عليهم هذا، فلا أقل من عرض الرأي بلغة تميل إلى التساؤل أكثر من أنها تميل إلى القطع في تبني الرأي. يجادل البعض استنادا إلى معلومات ناقصة، أو في غير محلها، وقد قال حكماء من قبل إن قلة العلم تكون ضارة أحيانا أكثر من عدم العلم. وهناك فريق ينتقدون قرارات تصدر من آخرين، على أرضية أنها مرتجلة أغفلت آثارا ضارة تنتج من تطبيق قراراتها، لكنهم يمارسون العيب نفسه عبر طرح مقترحات وآراء بديلة مرتجلة، لا يخلو تطبيقها من آثار ضارة، ومن ثم فإن المسألة في الحقيقة هي اختيار الأنسب. ما المقصود بكفاية الراتب للحاجة؟ المقصود كفاية الراتب للحصول على الاحتياجات، التي يراها السواد الأعظم من الناس متطلبات للعيش بمستوى معيشي لائق. الكلام السابق عليه مآخذ. جملة مستوى معيشي لائق ليس لها تفسير محدد أو قابل للاستدامة مع مرور الوقت، ويوضح ذلك أننا نرى في عصرنا كثيرا من السلع والخدمات التي لم تكن موجودة من قبل. وتبعا لهذا تزيد بنود وحدود الصرف مع مرور الوقت، فالسلع والخدمات منذ الثورة الصناعية في اتساع، وكل جيل يشهد دخول مزيد من السلع والخدمات، ما يزيد من الأعباء على جيوب الناس. إن رغبات البشر في الدنيا ومتعها لا حدود لها، بل تزيد مع السنين، بينما الموارد لها حدود. تلك من سنن الله في خلقه. تلك قضية أساسية. خلافا لما سبق، تفرض الثقافات والعادات بنود صرف ليست حقيقة مما يحتاج إليه الإنسان. وتتفاوت الثقافات بين البشر في نظرتها لطريقة وترشيد الإنفاق، فبعض عاداتنا في الصرف والاستهلاك يراها آخرون من باب السفه وتضييع المال. والحديث التالي مثال واضح لما أقصده. عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أنه كان هو وأبوه عند جابر بن عبد الله، وعنده قوم، فسألوه عن الغُسُل (غَسْل الجسم كله بالماء)، فقال: يكفيك صاع (أقل من أربعة لترات). فقال رجل: ما يكفيني. فقال جابر: كان يكفي من هو أوفى منك شَعرا، وخيرا منك (يريد النبي محمد، صلى الله عليه وسلم). من المطلوب منه أن يزيد الرواتب؟ الموظفون إما موظفو حكومة أو قطاع خاص. والأخير مُكوَّن من عشرات أو مئات الآلاف من المؤسسات والشركات المستقلة عن بعض. فأي الفريقين مُطالَب؟ الحكومة لا تملك حق إجبار القطاع الخاص على زيادة الرواتب، وأقصى ما تستطيع الحكومة فعله، أن تفرض حدا أدنى للأجور، وهذا الحد يقل كثيرا عن الراتب الذي يكفي الحاجة بالمعنى الشائع. المتبادر إلى الذهن أن المطالبة بزيادة الرواتب موجهة، من حيث الأصل، إلى الحكومة. هكذا تعودنا، وهو ما يتفق مع بُنية البلد الاقتصادية، ذلك لأن مصدر دخل البلاد الأعظم هو النفط، والنفط مملوك للحكومة، والفوائض التي يسمعها الناس هي فوائض مملوكة للحكومة. تلك البُنية الاقتصادية عَوّدت موظفي الحكومة على الخلط بين حقوق الموظف الحكومي بصفته أجيرا، وحقوقه بصفته مواطنا، وجرّ هذا التعود إلى تجاهل التفريق بين التعبيرين مواطنين وموظفين حكوميين، ولذا جاءت عامة مطالبات موظفي الحكومة بالتطرق إلى معاناة المواطنين (وليس موظفي الحكومة) من الغلاء، كما لو أن التخفيف عن موظفي الحكومة من الغلاء يعني باللزوم تخفيف معاناة بقية المواطنين بالمثل. تأملت كثيرا سبب هذا التفكير والصنيع، فوجدت أقرب تعليل في قوله سبحانه: وأُحضِرَت الأَنفُسُ الشُّح، أي جبل الله النفوس على الشح، فلا يكاد الإنسان يفكر في حقوق غيره عندما يفكر في حقوقه. حقوق الموظف الحكومي كغيره من الأُجَراء، ينبغي أن تحكمها محددات أجور القوى العاملة في البلاد، ويستوي هو وغيره من المواطنين في الاعتبارات الأخرى، أي علينا ألا نخلط بين حقوق الموظف الحكومي بصفته موظفا، وحقوقه بصفته مواطنا. يجب الفصل بين هذين الأمرين فصلا واضحا لا لبس فيه. من جهة أخرى، مصدر تمويل زيادة رواتب موظفي الحكومة هو النفط، والنفط ملك عام يُفترض أن يستفيد من دخله الجميع. النقاش لا علاقة له من قريب أو بعيد بمن وقعوا ضحية بعض قوانين وتنظيمات الخدمة المدنية الحكومية، أو وضعوا على درجات وظيفية أقل مما يستحقون. تسوية أوضاع هؤلاء لها أولوية. اعتماد مفرط على دخل النفط يشكل دخلنا من النفط نحو 90 في المائة من دخل الحكومة على مدى سنين طويلة، وهو مصدر الفائض في الميزانية. من المؤكد أن ما أصاب البلاد من ازدهار وعمران، ما كان له أن يصير، بعد فضل الله، دون دخل النفط، لكن حدوث هذا الازدهار يجب ألا يعمينا عن النظر في طبيعته الوقتية، لأن المحرك له النفط وهو وقتي مصيره إلى النضوب. تلك قضية مُهمَلة من المجتمع، وأعني بذلك السواد الأعظم من أفراد المجتمع. الناس إلا قليلا تطلب ما لها، لكنها تتجاهل ما عليها. للأسف، دلت البيانات الإحصائية الاقتصادية للدول النفطية في العقود الثلاثة الماضية على أن وفرة الموارد النفطية لم تُؤدِّ إلى إحداث تحقيق نمو اقتصادي راسخ مستمر. في نظر ثلة من المُحلّلين والباحثين الاقتصاديين الذين درسوا الظاهرة جيدا، فإن أهم هذه العوامل متصل بقدرات الدولة (المقصود طبعا شعبها) على كيفية الاستفادة من الموارد، وهذه الكيفية مرتبطة بالتعلم والاستفادة. النفط مورد ناضب التوضيح السابق يجر إلى تساؤل جدي عن قدرة دخلنا الحالي على الرسوخ والاستمرار. حققت المالية العامة فوائض كبيرة في فترة طفرة أسعار النفط الحالية، لكنها كانت تعاني عجزا كبيرا في الفترة من ثمانينيات القرن الميلادي الماضي إلى مطلع هذا العقد. لذا فإن من الرشاد أن نسأل عن مدى ثقتنا باستمرار تحقيق دخل يُؤمِّن مستوى معيشيا كريما لأغلب السكان. هذه قضية لا يعطيها المجتمع ما تستحقه من اهتمام، خاصة مع تزايد السكان وتقلب أسعار النفط. مشكلة السعودة يسعى كل فرد إلى الحصول على أفضل الأسعار. هذا المبدأ البدهي، لا ينطبق فقط على المستهلكين، بل ينطبق على أصحاب الأعمال والشركات والمؤسسات عند وضعها سياسات التوظيف، واستئجار القوى البشرية، وينطبق أيضا على الراغبين في الحصول على عمل. الجميع يبحث عن أفضل الأسعار، استنادا إلى معايير واعتبارات كثيرة، لهذا يفضل عامة الشباب الوظيفة الحكومية. تعطي الحكومة خريج الدبلوم فوق الثانوية، وكذلك الجامعي الذي يعين على وظيفة غير تخصصية، (لقلة الحاجة إلى التخصص) راتبا في حدود ستة آلاف ريال، يزيد كل سنة بنحو يراوح بين 250 و300 ريال. هل الأمر سيان لدى الشاب الراغب في وظيفة، لو أعطت إحدى منشآت القطاع الخاص (والكلام هنا كله عن الصغيرة والمتوسطة) الشاب الذي يحمل تلك المؤهلات والخبرات الراتب نفسه؟ طبعا لا، لوجود اعتبارات أخرى، غير الراتب، مثل الأمان الوظيفي، والإجازات، وساعات وظروف العمل.. إلخ. ما الزيادة المطلوبة في راتب المنشأة عن راتب الحكومة، مقابل الاختلافات في الميزات بين الوظيفة الحكومية ووظيفة المنشأة؟ بحيث تُحفّز الشاب على البقاء في وظيفته في المنشأة، أو تحفزه على عدم الانتظار الطويل عاطلا، على أمل الحصول على وظيفة حكومية. أتوقع أنها كبيرة، قد تصل إلى 70 في المائة أو أكثر، لكن الحقيقة التي بيّنتها الدراسات والاستبيانات أن أغلب مؤسسات القطاع الخاص الصغيرة والمتوسطة تُعْطي غالبا رواتب أقل من رواتب الحكومة، فضلا عن أن تكون مساوية لها، وهم يتحججون بأن الأوضاع لا تسمح لهم بإعطاء رواتب منافسة. وللعلم، توظف منشآت القطاع الخاص الصغيرة والمتوسطة أكثر من نصف قوة العمل كلها في أغلب الدول، وفي الوقت الحاضر، يُشكّل غير السعوديين أكثر من 80 في المائة من العاملين في هذه المنشآت. حسنا، لو زادت الحكومة رواتب موظفيها، فإن الراتب الذي سيطلبه الشاب من المنشأة للاستمرار سيزيد طبعا، ومن ثم فوضع السعودة سيزداد سوءا. قد ينتقد منتقدون المناقشة السابقة، على أساس أن الوظيفة الحكومية قد لا تكون شاغرة حسب الطلب. وجوابي أنه رغم أن الوظيفة في الحكومة (أو الشركة الكبيرة الناجحة) ليست متوافرة حسب الرغبة، لكن الدراسات أثبتت أن التعلق بالأمل في العثور على وظيفة شاغرة مناسبة سبب رئيسي من أسباب البطالة. الفساد من المبررات التي يُستند إليها في المطالبة وجود الفساد، لكن هذا المبرر عليه مآخذ. من القواعد الشرعية والمنطقية أن الضرر لا يزال بمثله أو بضرر أشد منه، وأن ارتكاب المعصية من البعض لا تبرر للآخرين أو تعطيهم حق ارتكابها. الأصلح تعميم النفع وتحسين مستواه. هناك أوجه صرف أهم وأنفع. وهذه أمثلة: - زيادة حجم وكفاءة دعم تملك المواطنين للسكن بطرق كثيرة. تسهيل الحصول على سكن مناسب بتكلفة مناسبة لجمهرة الناس له منافع شتى، وهي لا تخفى على الإخوة القراء. وأعتذر عن التفصيل في ذلك، لأنه يزيد من طول المقال، والتفصيل ليس هذا مكانه. - تحسين سياسات رعاية المحتاجين من فقراء ومساكين ونحوهم، لأن رعاية المحتاجين من واجبات الحكومات. - تحسين سياسات دعم توظيف السعوديين في المؤسسات غير الكبيرة، بما يحدث طفرة في السعودة، مع تحديد فترة زمنية لهذا الدعم. كما يجب أن يُقرَن هذا برفع تكلفة الاستقدام إلا في حالات وظروف مُستثناة. - تحسين سياسات دعم قطاع الصناعة التحويلية، بما يسهل تحقيق الاستراتيجية الصناعية، خاصة رفع مساهمة القطاع الصناعي غير النفطي في الناتج المحلي بنسبة لا تقل عن 20 في المائة بعد 15 عاما مثلا، ويحول السعودية لدولة شبه صناعية. - تحسين الإدارة الحكومية، ودعم السبل الرافعة لإنتاجية الجهاز الحكومي، وهذا وحده موضوع طويل جدا. هل من سبيل إلى زيادة رواتب موظفي الحكومة؟ بلى، لكن أرى ربط هذا بإصلاح نظام الخدمة المدنية إصلاحا جذريا. الكل تقريبا يشتكي من تدني الأداء، وبطء إنجاز الأعمال، وانخفاض المستوى المهني في الجهاز الحكومي. من أمثلة الإصلاح زيادة ساعات عمل الحكومة، وتقليل فروق إجازات العيدين بين الحكومة والقطاع الخاص، وتقليل الفروق بين أنظمة الخدمة المدنية والعمل، وإصلاح نظام العلاوات السنوية، وإدخال تعديلات وإعادة بناء معايير وأساليب التعيين و/أو الترقيات والتدريب والحوافز، خاصة على الوظائف المتوسطة والعليا. والحديث يطول... وبالله التوفيق.

مشاركة :