تونس – “أعيش حالة من الحيرة والانتظار الممل وكل ليلة أفكر مطولا ونناقش أنا وزوجي كيف سيمضي أبناؤنا يومهم إذا تواصل انقطاع الدروس، وغالبا ما لا نصل إلى حل مناسب لهم ومريح لنا، فأنا مضطرة للذهاب لعملي وكذلك والدهم، لكن كيف يمكن أن أطمئن عليهم طيلة ساعات اليوم التي يقضونها خارج مدارسهم من دون تعلم ولا رعاية ومراقبة” استهلت رويدا وهي أم لطفلين في المدارس الابتدائية حديثها لـ”العرب” معبّرة عن حيرتها من وضعية أبنائها. وأضافت الأم “بالرغم من وجود رياض الأطفال إلا أنها تظل غير كافية للإحاطة بالأبناء، فهي قادرة على أن تخفف من حالة الخوف عليهم كونهم يقضون ساعات اليوم فيها ويمارسون بعض الأنشطة الترفيهية ويراجعون دروسهم، لكنّها لا يمكن أن تعوّض مدارسهم في التعلم ومن ناحية الاستقرار النفسي فتجدهم في المساء متوترين وتكثر المشاجرات بينهم ويحدثون الشغب والمشكلات بسبب حالة الضغط النفسي التي يعيشونها”. واعتبرت رويدا وضعها أفضل من غيرها من الأمهات العاملات اللاتي لا يجدن من يعوّض وجودهن في البيت لمرافقة الأبناء الذين يدرسون في المرحلة الثانوية أو الإعدادية حيث لا توجد مؤسسات مثل رياض الأطفال تأويهم عندما يكونون خارج فصول الدراسة، فيجدون أنفسهم في الشارع معرضين للمخاطر أو يضطر أولياؤهم إلى حبسهم في البيت. وفي خضم الأزمة التي يمر بها التعليم حاليا، يشتكي غالبية الأهل من نفس المشكلة ويعانون نفس الحيرة في البدائل التي يمكن أن تعوّض لأبنائهم ساعات التعليم التي تضيع من حياتهم الدراسية دون أن يكون لهم ذنب في أزمة التعليم الحالية بتونس. ويفسّر علماء الاجتماع الأهمية الكبرى التي يوليها التونسيون لتعليم أولادهم بكونها من المبادئ الراسخة في ثقافتهم فجلّ الأسر تعوّل على الأبناء في تحسين أوضاعها المعيشية والاجتماعية كونه المصعد الاجتماعي الذي يخوّل لهم الارتقاء، ولا يدخر معظم أرباب الأسر جهدا ولا مالا في سبيل نجاح أولادهم في التعليم، والدليل على ذلك أنهم يضعون في أولويات مشاغلهم وعلى رأس مصروف البيت مصاريف التعليم، ومن بينها تكاليف الدروس الخصوصية التي أثقلت كواهلهم. ويؤكد مراقبون لمستجدات أزمة التعليم الراهنة أن الوضع بات خطيرا على الأسر والأبناء على حدّ السواء، فإلى جانب مشكلات التعليم من ناحية التكوين والبرامج التعليمية والمؤهلات، تعاني المدارس التونسية من العديد من الظواهر الاجتماعية التي تدخلها من باب تأثر الأطفال والمعلمين بالوضع العام في البلاد وبالظواهر الاجتماعية التي باتت تمسّ الصغار والكبار من جلّ الفئات الاجتماعية، ويرجع الكثير من المختصين وضع التعليم ومؤسساته المتردي إلى غياب القوانين التي من شأنها أن تحصّن المؤسسة التعليمية بكل مكوّناتها، خصوصا الأطفال من الآفات والمشاكل الاجتماعية. الأهل يعانون من الحيرة في البدائل التي تعوض لأبنائهم ساعات التعليم الضائعة دون أن يكون لهم ذنب في الأزمة الحالية وتؤكد فاتن معتوق صحافية وأم لتلميذين في المرحلة الثانوية أن غالبية الأسر تعيش حالة من الحيرة في ما يتعلق بمستقبل أبنائها القريب والبعيد، على خلفية الإضرابات في مؤسسات التعليم، وتوضح أن هذه الأزمة تشكل معاناة كبيرة للأم خاصة التي لا خيار لها أمام تشتت ابنها بين واقع يفرض عليه البقاء في المنزل أو الذهاب إلى المدرسة دون تلقّي الدروس. وتقول لـ”العرب”، إن “إبقاء الأطفال في المنزل صعب بسبب غيابي ووالدهم عن البيت، وكذا الأمر بالنسبة إلى ذهابهم إلى المدرسة حيث سيكونون عرضة لمخاطر أكبر في الشارع. دون ذلك العواقب النفسية للطفل الذي يظل متخوّفا من تهميشه طيلة السنة ونسيان ما تعلّمه في السابق”. وأبرز تقرير صادر عن المرصد الوطني للعنف المدرسي عام 2014 أن حالات العنف داخل المدرسة التونسية بلغت 52 بالمئة، في حين بلغت في محيطها 48 بالمئة، وأنه يتم سنويا تسجيل حوالي ثمانية آلاف حالة عنف في المحيط المدرسي، وكشفت تقارير خليّة علوم الإجرام بمركز الدراسات القضائية بتونس عام 2015 أن من ضمن الموقوفين في السجون التونسية يوجد ما لا يقل عن 8 آلاف شخص في قضايا تتعلق بالمخدرات استهلاكا وترويجا، 80 بالمئة منهم تلاميذ دون العشرين سنة. وخلصت دراسة للمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية حول العنف بتونس إلى أنه تم عام 2017 رصد أكثر من 14 ألف حالة عنف مادي صادرة عن التلاميذ والأساتذة وبقية الأسرة التربوية، وأن هذه الاعتداءات سجلت في سياق عام تميّز بارتفاع منسوب العنف في المجتمع التونسي. وتبيّن الإحصائيات أن هشاشة الوضع في المؤسسات التعليمية والنقائص التي تعمّ أغلبها ومن أهمها نقص الأمن والحماية في محيطها تجعلها بيئة محفوفة بالمخاطر قد تجعل التلميذ إمّا ضحية للعنف أو لغيره من الاعتداءات وإمّا تدفعه نحو تعلّم السلوكيات المنحرفة فيقدم على التدخين أو استهلاك المخدرات أو ممارسات العنف… ويعي غالبية الأولياء هذه المخاطر ما يضاعف مخاوفهم من قضاء أبنائهم لساعات خارج قاعات الدرس، وتزيد حيرتهم حول البدائل التي تؤمّن سلامة الأبناء وعودة العملية التعليمية إلى الاستقرار. وأكد أولياء أمور أنهم يبذلون جهودا كبيرة لمراقبة أبنائهم، بينما اختار عدد كبير منهم المحاضن المدرسية، فيما لم يجد غيرهم حلولا لأوقات فراغ الأبناء التي باتت ممتدة على كامل اليوم بسبب الإضرابات الراهنة، خاصة وأن مؤسسات الرعاية والنوادي الترفيهية الخاصة والمتوفرة في مناطق دون غيرها غير متاحة للجميع نظرا إلى تكلفتها العالية في مقابل تدهور دخل الأسر بسبب غلاء المعيشة والظروف الاقتصادية. وشارك أمس الخميس المئات من أولياء أمور طلاب المرحلتين الإعدادية والثانوية في مسيرة احتجاجيّة ضد مقاطعة معلمين لاختبارات مقررة في مارس المقبل.
مشاركة :