كيف يبدو وضع الغذاء العالمي؟ وما هي مؤشرات سوقه الأساسية؟ وأين تتجه البشرية على صعيد أمنها الغذائي؟ منذ عقود خلت، فرضت قضية الغذاء نفسها على الكثير من مقاربات التنمية الدولية، وباتت عنصراً دائم الحضور فيها. وفي العام 1945، تأسست منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو)، لتغدو أبرز هيئة عالمية معنية بقضية الغذاء. والحديث عن الغذاء هو في التحليل الأخير حديث عن الأمن الغذائي، بمفهومه الكلي أو الشامل. وهو يعني وفقاً لبعض التعريفات الدولية المتداولة: تأمين حصول الأفراد، في كل الأوقات، على غذاء كاف لتلبية الضروريات الغذائية لحياة صحية ومنتجة. يعتمد الأمن الغذائي على توفر الغذاء وإمكانية الوصول إليه، وعلى استعماله بصورة صحيحة. والأمن الغذائي، بهذا المعنى، هو أكثر من إنتاج الغذاء، وتأمين التغذية أو تقديم المساعدات الغذائية. وحسب هذه المقاربة، لا يمكن تحقيق الأمن الغذائي من خلال إنتاج كميات أكبر من الطعام فحسب، بل يعتمد كذلك على الاستثمار في الزراعة ويعتمد الأمن الغذائي على توفر الغذاء وإمكانية الوصول إليه، وعلى استعماله بصورة صحيحة. والأمن الغذائي، بهذا المعنى، هو أكثر من إنتاج الغذاء، وتأمين التغذية أو تقديم المساعدات الغذائية. وحسب هذه المقاربة، لا يمكن تحقيق الأمن الغذائي من خلال إنتاج كميات أكبر من الطعام فحسب، بل يعتمد كذلك على الاستثمار في الزراعة، وأن يتكامل مع برامج أمن اجتماعي، تعالج مسألة الجوع بين المجموعات الأكثر تعرضاً له. ويتألف نظام الأغذية من بيئة، وأشخاص ومؤسسات، وعمليات يتمّ من خلالها إنتاج السلع الغذائية وتجهيزها، وعرضها على المستهلكين. وكل جانب من هذه الجوانب يؤثر على التوفّر النهائي لأغذية متنوعة ومغذية. وأن معالجة سوء التغذية تستوجب بالضرورة إجراءات متكاملة وتدخلات مكمّلة في مجال الزراعة ونظام الأغذية، وإدارة الموارد الطبيعية، والصحة العامة والتربية، وفي المجالات السياسية الأوسع. وينطوي سوء التغذية بأشكاله كافة (نقص التغذية، ونقص المغذيات الدقيقة، والوزن الزائد والسمنة) على تكاليف اقتصادية واجتماعية عالية، بما ليس مقبولاً بالنسبة إلى البلدان، أياً كان مستوى الدخل فيها. ويتطلّب تحسين التغذية، وخفض هذه التكاليف، اتباع مقاربة متعددة القطاعات، انطلاقاً من الأغذية والزراعة، وبما يشمل تدخلات مكمّلة في قطاعي الصحة العامة والتعليم. ويتسم الدور التقليدي للزراعة من حيث إنتاج الأغذية وتوليد الدخل بأهمية حاسمة، غير أنّ النظام الغذائي برمّته، من المدخلات والإنتاج، مروراً بالتجهيز والتخزين، والنقل والتوزيع بالتجزئة، وصولاً إلى الاستهلاك، قادر على تقديم مساهمة أكبر للقضاء على سوء التغذية. وقبل سنوات، قال تقرير لمنظمة الفاو إن الإنتاج الزراعي العالمي يجب أن يزيد بنسبة 70% بحلول العام 2050، بهدف توفير الغذاء لسكان الأرض، الذين سيزداد عددهم ليبلغ 9.1 مليارات نسمة بحلول ذلك التاريخ. ولا زال في عالمنا اليوم مئات ملايين البشر ممن ينامون جياعاً. وملايين الأطفال يموتون كل عام نتيجة سوء التغذية أو انعدامها الكلي. وتشير دراسة جديدة لمنظمة الفاو إلى أن الإنتاج العالمي من الحبوب في عام 2015 سيبلغ527 2 مليون طن، متراجعاً ب 1.1 % (27 مليون طن) عن مستوياته القياسية في عام 2014، وسوف تعوض الزيادة المتوقعة في إنتاج الحبوب الخشنة الانخفاض المتوقع في إنتاج الأرز. ويرجع التحسن المتوقع في إنتاج الحبوب الخشنة أساساً إلى زيادة نسبتها 1% (5 ملايين طن) في إنتاج الذرة الذي سيصل إلى 007 1 ملايين طن، ويُعبِّر ذلك عن زيادات في إنتاج المحاصيل بمعدلات أعلى مما كان متوقعاً في البداية في أوروبا وأميركا الجنوبية نتيجة لتحسن ظروف الطقس. وتشير التوقعات إلى أن الإنتاج العالمي من القمح في عام 2015 سيبلغ 723 مليون طن، أي أقل بنسبة تقترب من 1% (8 ملايين طن) عن مستوياته القياسية في عام 2014. ونَجم الهبوط خلال هذه السنة مقارنة بنفس الفترة من السنة السابقة عن انخفاض الإنتاج المتوقع في الاتحاد الأوروبي والاتحاد الروسي، حيث تشير التوقعات إلى عودة الغلات إلى مستوياتها المتوسطة بعد الارتفاع الاستثنائي الذي سجلته في السنة الأخيرة. ويتوقع أن تصل التجارة العالمية في الحبوب في الموسم 2015/2016 إلى 358 مليون طن، بانخفاض نسبته 1.2% (4 ملايين طن) عن تقديرات الموسم 2014/2015، وإن كانت أعلى بمقدار 7 ملايين طن عن مستوياتها المسجلة في حزيران يونيو، وترتبط معظم الزيادة بالحبوب الخشنة. وتشير التوقعات الحالية إلى أن التجارة الدولية في الحبوب الخشنة (تموز - حزيران) في الموسم 2015/2016 ستصل إلى 165 مليون طن، بزيادة تقترب من 7 ملايين طن عن التوقعات الأوَّلية، ولكنها لا تزال أقل بنسبة 2% تقريباً (3 ملايين طن) عن مستوياتها في الموسم الأخير. ويرجع الارتفاع المسجَّل خلال هذا الشهر أساساً إلى زيادة صادرات الذرة في الأرجنتين والاتحاد الروسي والولايات المتحدة. بيد أن حجم التجارة العالمية في الشعير والذرة الرفيعة تحسَّن أيضاً منذ حزيران يونيو، وذلك أساساً بسبب الزيادة المتوقعة في مشتريات الصين. هذا وقد تراجع المؤشر الدولي لأسعار الغذاء بمقدار 0.9 % خلال حزيران يونيو، مقارنة بشهر أيار مايو. ويُعد المؤشر البالغ 165.1 نقطة الآن، أقل بنسبة 21% مقارنة بمستواه في العام الماضي. ويعزى تراجع مؤشر منظمة الفاو لأسعار الغذاء أساساً إلى انخفاضات مقدارها 6.6% في أسعار السكر، و4.1% في أسعار منتجات الألبان.. والتي عوّضت وأكثر عن انتعاش أسعار زيت النخيل والقمح. كذلك، فإن زيادة الطلب العالمي على علف الماشية، خصوصاً من جانب البرازيل والصين والولايات المتحدة، رفعت من أسعار الحبوب الخشنة بما في ذلك الذرة. وقد حذر تقرير حديث للمنظمة من أن هذه الاتجاهات المواتية للأسعار العالمية ولآفاق إنتاج الحبوب إنما تخفي وراءها أوضاع إنتاج سلبية في مناطق انعدام الأمن الغذائي الساخنة من الكرة الأرضية. ووفقاً للفاو، هناك نحو 34 بلداً في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك 28 بلداً في إفريقيا - والعديد منها يستضيف أعداداً كبيرة من اللاجئين - في حاجة إلى مساعدات غذائية خارجية. وتشير المنظمة، بوجه خاص، إلى أوضاع "مثيرة للقلق الشديد" في حالة الأمن الغذائي بالمناطق المتضررة من النزاع في جنوب السودان، حيث تضاعف تقريباً عدد الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي، ليصل إلى نحو 4.6 ملايين نسمة منذ بداية عام 2015. ومن ناحيته، يواجه الشرق الأوسط أزمة إنسانية متفاقمة. وبينما من المتوقع أن يتعافى إنتاج الحبوب في الإقليم من جفاف العام الماضي، ما زالت الصراعات المستمرة في دول مثل العراق وسورية تخلّف آثاراً سلبية حادة على الزراعة فيها. وقد باتت تواجه أزمة إنسانية متصاعدة. وفي آسيا، من المتوقع أن تعوّض المحاصيل القياسية في الصين وباكستان عن الانخفاض في أي من مناطق الإقليم الأخرى، ولا سيما الهند نتيجة لضعف حصاد محصول القمح. ورغم تفاوت المؤشرات المتداولة، فإن دراسة صادرة عن وزارة الزارعة الأميركية، أفادت بأن الأمن الغذائي في بعض أشد دول العالم فقراً قد يتدهور بحلول نهاية العقد المقبل. وقالت هيئة البحوث الاقتصادية التابعة للوزارة إنه بحلول العام 2023، من المتوقع أن يرتفع عدد الناس الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي بنسبة تصل إلى نحو 23% أو ما يعادل نحو 868 مليون شخص. وقد شملت الدراسة 76 دولة، تتراوح ما بين المنخفضة والمتوسطة الدخل. وتتميز هذه الدول بكونها تعيش على المعونات الغذائية، وتعاني من انعدام الأمن الغذائي أو عانت منه في فترة سابقة. وشهدت المعونات الغذائية خلال العقد الماضي تراجعاً، بما في ذلك المعونات الموجهة إلى دول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وبدأت "المعونات الغذائية"، في العقد الماضي، تتحول إلى "مساعدات غذائية" مالية، تتمثل في تقديم مبالغ نقدية وقسائم للأشخاص المحتاجين. وهو ما يوفر ملايين الدولارات التي يتم إنفاقها على عمليات النقل والتخزين. وبما أن الأزمات التي تؤدي إلى الحاجة إلى المعونات الغذائية تحدث إما بسبب كوارث من صنع الإنسان (مثل الصراعات والاضطرابات الاقتصادية) أو كوارث طبيعية (مثل موجات الجفاف والفيضانات والزلازل)، أو تكون مزيجاً من الاثنين معاً، فإن ذلك يضع قدرة الناس على الصمود على المحك ويجعلهم يعتمدون على نحو مزمن على المساعدات. وأخيراً، يجب التشديد على أن الأسرة الدولية معنية بتعزيز مقاربتها للأمن الغذائي، لتغدو أكثر كفاءة وقدرة على مواجهة التحديات الماثلة.
مشاركة :