أحيانًا يمر يومان دون أن أتبادل جملة مفيدة مع أصغر عيالي سنًّا، وحتى عندما كنت أنجح في بدء الحديث معه، فإنه كان يرد عليّ بعبارة تلغرافية أو بكلمات ذات مقطع واحد، أسأله هل أديت واجباتك المدرسية فيرد: آي!! غيَّر ملابسك،... هممم!! هل ستخرج معنا؟.. لا... هل تريد مني أن أحضر لك شيئًا عند عودتي؟... بعدين!! بعدين ماذا؟ هل تريد مني أن أحضر لك «بعدين» بعشرة دولارات؟ هو ليس «قليل أدب» ولكنه يريد أن يعطيني الانطباع بأنه مشغول، وهو فعلاً مشغول بمتابعة برنامج تلفزيوني أو لعبة إلكترونية أو العبث بمفاتيح الكمبيوتر، ويجلس ساهما وهو ينظر في هاتفه الجوال لساعات، ثم قد ينفجر ضاحكا أو غاضبا، فأضطر بين الحين والآخر إلى القيام بدور الأب الديمقراطي فأغلق جميع الأجهزة الكهربائية والإلكترونية التي في البيت، وانتزع منه هاتفه وأغلقه، ثم أرغمه على الجلوس مع بقية أفراد الأسرة لتبادل الحديث! فإذا ببقية أفراد الأسرة أضلُّ منه سبيلا، ويجلسون معي ومع أمهم ولكن «قلوبهم شتى»، وكل واحد منهم منصرف بكل جوارحه إلى شاشة الهاتف الجوال. وأصبحت أتمنى أن أتناول مع ولدي ذاك وجبة منزلية، فعندما كان صغيرا كان يعود من المدرسة قبل عودتي من العمل، ويأكل أقرب شيء إلى يده وهو واقف، بعد أن يلقي بحقيبته حيثما اتفق، ثم يتوجه صوب التلفزيون أو الكمبيوتر! وكبر ودخل الحياة العملية ولكنه يفضل مجالسة الهاتف والتلفزيون والكمبيوتر على مجالستي، «مع أن دمي مش ثقيل بدرجة منفرة»!! وأتفهم أنه ينتمي إلى جيل لا يعرف متعة الحديث الحميم الدافئ، ولا ينبغي أن يعاتب على ذلك، لأن نمط حياتنا اليومية صار لا يسمح بالتجمع العائلي العفوي المنتظم، فكل فرد من أفراد الأسرة مشغول بشيء ما، ولكل واحد منهم برنامجه التلفزيوني المفضل، فصارت العديد من البيوت تمتلك أجهزة تلفزيون بعدد أفرادها فضًّا للاشتباكات العائلية، وطفت ظاهرة «هذه غرفتي أو أوضتي»، وكل واحد ينحشر في زنزانة خرسانية ويغلق الباب وراءه معلنًا تمسكه بفرديته ورفضه لحشر الآخرين أنوفهم في «شؤونه»، وهؤلاء «الآخرين» هم الأب والأشقاء. انتهت أو كادت أن تنتهي ظاهرة الأسرة الممتدة التي تجتمع تحت سقف واحد، وتنتقل فيها التجارب والمعارف من الجد إلى الأبناء والأحفاد وهلم جرا! بل إن كثيرين منا سعداء بانشغال العيال والمدام بالوسائل الكهربائية والإلكترونية لـ«يرتاح» هو أو ليتفرغ لعمله وهواياته، وأخطر نتائج هذه الظاهرة هي أن علاقة الطفل بالكمبيوتر أو الهاتف تكون أقوى من علاقته بابن خالته وخالته نفسها، وأن قدرته على التعبير اللغوي تكون ضعيفة لأن دماغه مشحون باللغة السايبرية التي تتألف في غالب الأحوال من رموز صامتة، ولهذا فقد تم في بريطانيا إنشاء «وكالة المهارات الأساسية» التي يقول مديرها ألن ويلز، إن أهم واجباتها هو تشجيع الأطفال على الكلام مع الآخرين، وتحسين قدرتهم على التعبير عن أنفسهم، وفي مؤتمر عقد يوم 8 ديسمبر في وارينجتون بإنجلترا، صعق المشاركون عند استعراض حالات آلاف الأسر التي يعجز صغارها البالغون من العمر فوق السنتين عن فهم اللغة الدارجة المستخدمة في الحياة اليومية،... والمفجع هو أن مدارسنا لا تعلم الصغار اللغة الفصيحة والبيوت ما عادت مكانًا لتعلم اللغة الدارجة وإذا كان مفهومًا أن حكوماتنا ترحب بعجزنا عن التعبير عن أنفسنا بسهولة وطلاقة، فليس مفهومًا أن نسكت نحن الآباء والأمهات على إصابة عيالنا بالخرس حتى داخل البيوت!
مشاركة :