ولأن (الاجتهاد) بضوابطه الشرعية مطلبٌ فقهي لمواجهة النوازل، واختلاف الأحوال، وتغيّر الفتوى بتغيّر الزمان، والمكان، فقد تعدّدت الرؤى، والمواقف، وتناسلت المذاهب، واستحال معه اليقين بِشقَّيْه: المعرفي، والتصديقي. والعلماء على ضوء خلفيتهم المعرفية يستبعدون (الإجماع)، حتى قال قائلهم: (من ادّعى الإجماع فهو كاذب). والمتداولون لهذا المصطلح يختلفون حول مفهومه، وضوابطه: - هل هو إجمَاعُ عَصْرٍ، أو إجماع مصر. ولم يفكروا بمفهومه المطلق، لأنه من المستحيلات، وقد تعضدُ احتمالَ الإجماع آيةُ (النساء 115): {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا}. فَكَأَنَّ المؤمنين بتوافقهم يمثِّلون الإجماع. ما أعرفه على وجه اليقين في مختلف الحقول المعرفية، يعني (الحَدَّ، والقطع) ومن المستحيل القطع إلا مع الدليل البرهاني القطعي الدلالة، والثبوت. وذلك لا يتأتى إلا في نصوص محدودة، قد لا يُسَلِّم لها الجميع، ولكنها عند المستنيرين بنور الإيمان قطعيات. من مُفْرداتِها الغيبيات التي طريقها الوحي، كالإيمان بوجود (الله)، و(الرسول)، و(البعث)، و(الحساب)، و(الجزاء)، و(الجنة)، و(النار). مع أن مستويات الإيمان بها متفاوتة عند سائر الملل، والنحل. الفلسفة الحديثة في جانبها (الميتافيزيقي)، أخذها الإعياء، وأجهدها السرى، وبلغت حد التهافت الذي قطع به (الغزالي ت 505هـ). والإعياء الذي بلغ بذويه الدرك الأسفل، حمل المفكر العربي (زكي نجيب محمود ت 1414) إلى تأليف كتاب (خرافة الميتافيزيقا)، وحين أثقله النقد عدل بالاسم إلى (الموقف من الميتافيزيقا). و(عالم الغيب) لا ينكره إلا الملاحدة، ولا يخوض به إلا المجازفون، وتناوله بالقدرات العقلية، وتقحم عوالمه دون الاعتماد على (الوحي) من المنكرات الفلسفية. هذا الجانب حمل علماء السلف على رفض الفلسفة، والمنطق، والتحفظ على (علم الكلام). فالله وحده عالم الغيب، والشهادة. {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} والإظهار هو الوحي. ولو تجاوزنا (عالم الغيب) إلى عالم الشهادة تبدت لنا صعوبات مماثلة. فالقطع، واليقين بحق أي حدث من المستحيلات، لأن للأشياء ما قل منها، أو كثر زوايا متعدّدة، وقد لا يُتاح للرائي أكثرُ من زاوية، ورؤيته، وعلمه مرتبطان بمعطى تلك الزاوية، وبقدرات الحاسة البصرية. وحتى رؤية الزاوية لا يكون بالضرورة دقيقاً. ومن ثم تخطئ فيما أتيح لك من الرؤية، فكيف بما لم يتح. والدليل على ذلك أن مهرة المصوّرين لو أمروا بأخذ لقطة لشيءٍ (ما) جاءت صورهم مختلفة، فكيف بباقي الزوايا. إذاً من الخطأ أن تجعل (اليقين) مناط حكمك على الأشياء، لأن في ذلك مصادرة لحق الآخرين. وفي النهاية (لا شَيْءَ تَعْرِفُه عَلَى وَجْهِ الَيَقِين). وليس من مقتضيات الإيمان المعرفة على وجه اليقين. (الإيمان) يحسم الخلاف، وينهي معاناة التردد، وإذا ضاع، ضاع معه الأمان، وأصبح الإنسان ريشةً في مهب الريح، والإيمان يَحْسِمُ اللهاث وراء الحقيقة. (القَدَرُ)، و(الرُّوحُ) مفرداتٌ عَصِيَّةٌ، لم يَحْسم أحدٌ أمرهما عقلاً، ومع هذا يجب الإيمان بهما على ضوء الوحي، لا على ضوء القناعة العقلية. وتقصي أركان الإيمان، ومعطياتها توحي بأن الإيمان لا يقتضي معرفة الشيء على وجه اليقين. وقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}. رفع الحرج في التفكير. فما تخفيه في نفسك من تساؤل لا تحاسب عليه، أما حين تعبر، أو تعمل فإنه يكون الحساب. والمشركون حين استفحشوا ادعاء (الإسراء) خَفُّوا إلى (أبي بكر) لإخباره بما قال صاحبه. وكان رده بكل ثقة: (إن كان قال ذلك فقد صدق). ومن ثم سمي بالصديق. ولو أنه أرجع ذلك إلى عقله لما وسعه الإيمان، لأنه من المستحيل تصوّر (الإسراء) عقلاً. العلماء المجربون الموازنون بين العقل، والنقل، والمؤمنون بعدم التعارض بين صحيح المنقول، وصريح المعقول، يتحامون (الحِدَّةَ)، و(الحَدِّية)، و(القطع). وعدم القطع لا يعني الشك، ولا الارتياب، ولا التفويض المطلق، وفي النهاية: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً}.
مشاركة :