حديث الخميس: من وحي المحطّة

  • 1/31/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

حسان الحديثي لندن والساعة فيها الثامنة صباحاً بعد ليلة ضجّت فيها رياحُ الشمال حاملةً معها نفحات الجليد فانخفضت بها الحرارة الى بضع درجات تحت الصفر حتى تجمّد فيها كل شيء فلم يكن الصباح بأقل برودة من الليلة المنصرمة ليس ذلك فحسب بل اطبقت على النهار غيومٌ كثيفةٌ تنذر بيوم نديٍّ ، كنت حينها واقفاً مع جمعٍ من الناس في المحطة انتظر الباص وقد بدأت السماء بالمطر ثم لم تمر الا لحظات حتى استحال المطر الى حباتٍ من البَرَدِ تتساقط مصدرةً اصوات فرقعات مختلفة الإيقاع عند ارتطامها بالاشياء؛ فبعضها على سقوف السيارات وبعضها على زجاج المنازل وبعضها على وشل الغدران المتبقية من المطر الاخير وقد علتها سقوف جليديةكان موقف محطة الباص صغيراً على استيعاب كل الواقفين، فابتعدت عنه قليلاً فاسحاً المجال لغيري ممن يريد الاحتماء بسقفه الصغير من لسعات حبّات البَرَد المتساقطة مداعبةً الرؤوس العارية والمكشوفة ، هناك وعلى على بعد خطوتين مني كانت تقف سيدةٌ سبعينيةٌ بكامل اناقتها وزينتها تنتظر الباص ايضاً وكانت ابتسامتها -كعطرها- باديةً للجميع ولم يمرّ بقربها احدٌ الا ونالَه من تلك الابتسامة وذلك العطر شيء يجعل صباحَه أجمل.أعجبني اعتدالها وجذبتني وقفتها الواثقة وكرات البَرَد تتدحرج متناثرة على الارض من حولها وهي غير مبالية بها وبالجو المتجمد، لكني لمحت ارتجاف اصابعها الرقيقة والتي كانت تحمل بها مظلةً داكنة اللون تحميها من الكرات الثلجية العمياء النازلة من بين طيات الغيوم العالية غير مبالية بأي راس ستصطدم.كانت السيدة رشيقة -وان عكّر صفاءَ جمالِها آثارُ العُمُر- وكانت أنيقة ايضاً -وان بدت على محيّاها تجاعيدُ الزمن- ترتدي معطفاً بنفسجياً طويلاً وحذاءً بكعبٍ أقلقني ارتفاعُه خشيةً عليها لكن ما لبث ان زال القلق حين رأيتها تمشي به جيئةً وذهاباً بثبات وخفة.أعجبني شالُها الأرجواني الصارخ، لقد بدا لي طويلاً جداً وقد لفته مرتين على رقبتها المنتصبة الا ان طرفيه بقيا متسربلين على قوامها ذات اليمين وذات الشمال.قلت لنفسي: كيف وافقتْ بين لون الشال والمعطف؟ مع ندرة اللون الارجواني سيما في الكماليات من ألبسة النساء كالشالات.كان الجميع يتطلع بساعته قلِقاً من تأخر الباص في طقس سيء كاليوم الا انا وتلك السيدة ، كلانا لم يكن يعبأ بالوقت ولا يهمّه الساعة الى اي جهة قدا اشارت عقاربها.وصل الباص على الموعد فصعد الجمع المنتظرون اليه واحداً تلو الآخر حتى اذا وصل لها الدور بالصعود مدّتْ اليَّ يدَها بلطف -وكنت اقف وراءها- طالبةً مني مساعدتها بالصعود الى الباص ذي العتبة العالية، هُرعت مسرعاً ومددت يميني ممسكاً بيمينها ثم وضعت يدي الشمال وراء كتفها خوفاً عليها من الانزلاق الى الخلف على ارض امتلأت بكل اسباب الانزلاق.يا الهي.... كانت يدُها متخشبة -من شدة البرد- كأنها قطعة جليد لكنها كانت تمتلك من القوة والكبرياء ما يكفي لتمنعها من الارتجاف والاذعان للبردقالت لي: اصعد أمامي الى الباص وساعدني في الصعودقلت لها متبسماً: بل انتِ تقدمي أمامي سيدتي فللنساء جميعاً علينا خطوة، أما الجميلات منهن فلهن خطوتان وقدمتها أمامي لتصعد للباص.... تبسمت هي الأخرى ابتسامة لم تستطع اخفاءها وهزت رأسها يميناً وشمالاً شأن من أعجبه الكلام، ثم انفجرت بضحكة سمعها وانتبه لها كل من في الباص.بقيت ممسكاً بيدها وهي تمشي بين مقاعد الباص حتى استقرت في مقعدها فأخذتُ مكاني في المقعد الذي يليها تماماً بعد ان لمحت في عينيها كلاما تريد ان تحاورني به، ثم لم تلبث ان التفتت الي ثم قالت: الرجال.. الرجال... يا ويلنا من الرجال، يكذبون ونعلم انهم يكذبون ثم نغيّب عقولنا ونصدّقهم، ترى هل هذا من حسن حظهم ام من سوء حظنا نحن النساء؟فقلت لها: بل من حسن حظ الاثنين يا سيدتي فليس بالصدق وحده يحيا الانسان.سار بنا الباص يتهادى بخفة واناقة وأتزان ولكن ليس كالخفة والأناقة والإتزان الذي أحسسته بشخص صديقتي العجوز.سكتت قليلا ثم سألتني: هل انت من هذه البلاد؟ لا يبدو لي وجهك غريبا وان بدا ذلك في لهجتك- لست من هذه البلاد ... ولكني ألِفْتها وألِفْت الناس فيها، لست ادري ايّنا السبب في ذلك انا ام هذه المدينة.لعلي "خُلقت الوفاً" أستطيع العيش في اي مكان، ولعلّ هذه المدينة الواسعة الاطراف التي ضمّت تحت جناحيها كل اجناس الارض قد خَلقتْ لنا مزاجاً من الألفة والاستقرار.- اجابتني بإيمان وثقة، صدقت....لندن ارض مختلفة عن غيرها واختلافها انها تتقبل الجميع وتتسع للجميع، صحيح انني بريطانية ولكنني لست لندنية في الاصل، فقد جئت من الشمال من ليفربول ولكني ما ان اقمت في لندن بضعة شهور حتى احسست انني انتمي اليها وكانها مدينتي الام، وها انا اعيش فيها منذ اكثر من خمسة عقود ولا استطيع العيش في سواها. وانت ايضا ستتعود عليها وتجد نفسك فيها.قالت لي ذلك وانا اشعر اني امتطي بساط الريح واعبر البحار والصحاري الواسعة لاحلق فوق بغداد.فهي حين قالت لي ذلك نكأت في قلبي الف ذكرى، فالعلةُ ليست بالجراح يا سادة فالجراح تندمل وتشفى، انما العلة بالتذكار وهذا ينطبق على الغالب الأعظم من التعاسه في حياة البشر، يتذكر الانسان الجرح فيتجدد الحزن وكلما الحَّ بالتذكار اكثر... انتعش الحزن اكثر، ونحن شعوب -لكثرة مصائبها- جُبلت على تذكر الحزن وتناسي السعادة، رحم الله ابراهيم ناجي حين: وإذا ما التام جرحٌ ... جدَّ بالتذكارِ جرحُكنت انظر اليها واقول لنفسي: هل يستطيع الانسان ان يجد ارضاً بديلة لارضه؟ فالقصة ليست في اي مدينة تعيش ولكن اي مدينة تعيش فيك.المدن تلبسنا ولا نلبسها وهي وحدها القادرة على نزعنا، ولأن المدن الشريفة كالامهات فهي لا تنزع اولادها منها.كنت اسأل نفسي: كيف ساترجم لصديقتي الانيقة كل ما يدور في بالي من كلام؟ فالمشكلة ليست في اللغة المشكلة في الفهم.ليت الله يجعل الفهم في العيون كما جعل الكلام في الالسنة لنختزل بنظرة واحدة كلاما لن تتسع له مجلدات الكتب، وان كنت قادراً على ترجمة الكلام فكيف سأترجم لها قول الشاعر: ســـلام عـلـى دار الـسـلام جـزيـل ... وعتبى على أن العتاب طويلُأبـغـداد لا أهــوى سـواكِ مــديـنـة ... ومـا لي عــن أم الـعـراق بديلُخيالك فى فكرى وذكراكِ فى فمى...وحبك وسط القلب ليس يزولُولـم انـسَ فى يوم عهود احـبـتى ... ولكن صبـرى فى الفؤادِ جميلُوصلتُ محطتي قبلها وهممت بالنزول فوددت لو نزلتْ معي لاكون رفيقها عند النزول ايضاً.... ودعتها لاعناً العمر الذي ما فتأ يحاول ان يودي بالحُسْنِ ولاعناً عتبة الباص التي لا تنحني أمام الجمال ولاعنا البعد الذي أخذَنا مما نحب.....ثم غادرتُ الباص وعزائي ان الرقة واللطف والاناقة لن يلاقوا الا رقة ولطفاً واناقةً مثلهم..

مشاركة :