يتضح من الواقع والبحوث أن هذه ليست سوى معتقدات خاطئة، فكل الاقتصادات المتقدمة في واقع الأمر لديها نظم موسعة للحماية الاجتماعية، ويراوح إنفاقها عليها بين 20 و27 في المائة من إجمالي الناتج المحلي أو يزيد. وليست هناك أدلة على أن هذه الاقتصادات ضحت بقدر كبير من مستويات نموها في سياق مكافحة الفقر، وعدم المساواة، وانعدام الأمن. ولو كان المعتقد الخاطئ بشأن أثر التقاطر صادقا فما كنا لنشهد هذا التباين الكبير في مستويات الفقر وعدم المساواة بين البلدان التي تتشابه فيها مستويات نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي. فالأسواق إذا ما تركت لها حرية التصرف لن تنشئ طرقا جديدة لإعادة توزيع الدخل، بخلاف تحويلات الثروة، أو تقاسم الدخل بين أفراد العائلة أو الأقارب. غير أن معتقد الضربة القاضية الخاطئ الذي طالما تسبب في عرقلة التقدم في توفير الحماية الاجتماعية يقضي بأن تكلفتها ليست في المتناول، وأنها غير قابلة للاستمرار. ويزعم هذا التوجه الفكري أن بلدانا كثيرة لا تملك الموارد اللازمة، ولا تستطيع تعبئتها لتمويل حتى المستوى الأساسي من الحماية الاجتماعية، ولكن هناك اعتراضات على صحة هذا المفهوم، أثارتها دراسة شاملة أجراها "التحالف العالمي لأرضيات الحماية الاجتماعية"، وهو شبكة عالمية تضم قرابة 100 نقابة عمالية ومنظمة غير حكومية، ودراسات مماثلة أجرتها جماعات أخرى. وقد أعد هذا التحالف مؤشرا يضم 150 بلدا لحساب الموارد اللازمة لسد فجوات الحماية الاجتماعية. وبعبارة أخرى؛ لتحقيق الحد الأدنى من الدخل والرعاية الصحية، الذي تشترطه توصية منظمة العمل الدولية رقم 202، ويلاحظ أن نصف هذه البلدان تقريبا البالغ عددها 150 بلدا بإمكانها سد هذه الفجوة بتخصيص نسبة أقل من 2 في المائة من إجمالي الناتج المحلي فيها لمصلحة الحماية الاجتماعية. وسيتطلب إنشاء صندوق عالمي لدفع 50 في المائة من فواتير الحماية الاجتماعية لهذه البلدان مبلغا يراوح بين 10 و15 مليار دولار سنويا، وهذا المبلغ يعادل 0.9 في المائة من الإنفاق العالمي السنوي للأغراض العسكرية، الذي يناهز 1.7 تريليون دولار، وفقا لحسابات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام. ويمثل هذا المبلغ جزءا من 1000 من التكلفة على المالية العامة العالمية، من جراء الأزمة المالية العالمية، وهو إحدى درجات التضامن التي ينبغي أن نتحمل تكلفتها. ويتناول التقرير حساب تكلفة نظام الحماية الاجتماعية الموجه بدقة للمستحقين، أو حسب السعة المالية. ولا يوجد في واقع الأمر ما يعد توجيها دقيقا للمستحقين، وبالتالي تلجأ بلدان كثيرة أو ينبغي لها أن تلجأ إلى نظم المنافع الأكثر تعميما. ويمكن ضم هذه المنافع مع النظم الضريبية التي تسترجع جانبا من الموارد المعاد توزيعها من الأشخاص ذوي الاحتياجات الأقل إلحاحا. فالنظم الضريبية العادلة والفعالة بإمكانها المساهمة في تحصيل قدر أكبر بكثير من الموارد الإضافية مقارنة بما يمكن تحقيقه من وفورات باستخدام آليات قياس السعة المالية المنفردة التي تتسم بالقدر نفسه من التعقيد. والأمر لا يقتصر على أن معظم البلدان بإمكانها تحمل تكلفة الحماية الاجتماعية، بل إنه ليس بوسعها إغفالها. فلا يسع أي بلد تحقيق إمكاناته الاقتصادية الكاملة دون الاستثمار في صحة مواطنيه وتعليمهم وأمنهم المادي. وأخيرا، أعلنت كريستين لاجارد، مدير عام صندوق النقد الدولي، أن السعي إلى تحقيق أهداف التنمية المستدامة "أولوية عالمية". وقالت "عندما يتعلق الأمر بالحد من عدم المساواة"، فهناك "أهمية لدور الاستثمار العام في مجالات كالصحة والتعليم ونظم الحماية الاجتماعية". فما المطلوب إذن لتنسيق الجهود لإحراز تقدم سريع نحو توفير الحماية الاجتماعية للجميع؟ إن ذلك يتطلب الإرادة السياسية والشجاعة لتوجيه جهودنا المتعلقة بالتنمية والحوكمة في اتجاه يتسق مع بوصلتنا الأخلاقية المتعارف عليها عالميا. فالأمر يتطلب الشجاعة لرفض الاعتراضات، وتعبئة موارد المالية العامة للاستثمار في الحماية الاجتماعية. فالدولة الثرية عليها أن تدفع تكاليف وضع نظم للتحويلات الاجتماعية الفعالة والكفؤة. وبعبارة بسيطة، إننا في حاجة إلى نظم ضريبية تصاعدية وعادلة وفعالة؛ وآليات تحصيل سليمة؛ ونظام للحوكمة المالية الرشيدة. والأمر يتطلب في المقام الأول الإرادة السياسية لإعطاء الحماية الاجتماعية أولوية قصوى على مستوى السياسات. المجتمع المدني لديه البوصلة الأخلاقية والبيانات الأساسية التي تبين أنه لا يكاد يكون هناك بلد فقير لدرجة تمنعه عن المشاركة. ومع احتمال أن تتأثر حياة ملايين البشر باستراتيجية الحماية الاجتماعية التي تصدر قريبا عن صندوق النقد الدولي، ينبغي أن تسترشد هذه الاستراتيجية بضمير المجتمع الأممي، وليس بالترويج المتحرر لاستمرارية أوضاع المالية العامة التي غالبا ما يساء تعريفها
مشاركة :