منذ اشتعال الثورة السورية، والنظام السوري والآلة الإعلامية المحيطة به يقوم بإنتاج علاقات سببية متعددة؛ لتبرير استهداف وقتل الثوار والمدنيين. لا تبدأ هذه العلاقات السببية الأسطورية من (بقاء نظام الأسد ضروري لمقاومة المشروع الصهيوني) ولا تنتهي عند (أن بقاء نظام الأسد ضروري لحماية الأقليات الدينية). من بين هذه العلاقات السببية خطاب يحاول خلق علاقة سببية بين كل ما هو «إسلامي» و«ديني متطرف» في سورية بالسلفية القادمة من الخارج، ومناهج التعليم المنتشرة في الخليج، ولاسيما السعودية، وهذا النوع من الخطاب يُعاد إنتاجه في الداخل أيضاً؛ ليعتبر حجة إضافية للمطالبة بتغيير المناهج الدراسية. إن مثل هذا الخطاب يقوم على ثلاث فرضيات، تقول أولاهما: أن السلفية قادمة من الخارج، ويكفي لنسف مثل هذه الفرضية أن نتذكر أن ابن تيمية عاش ودفن في دمشق. وكذلك أن نتذكر في العصر الحديث الشيخ الألباني الذي عاش وتربى في سورية ودوره الكبير في السلفية المعاصرة. أما الفرضية الثانية فتؤكد أن هناك علاقة سببية بين المناهج الدراسية وبين آيديولوجية الفرد السياسية، فإذا كانت المناهج الدراسية سلفية فإن احتمالية أن يكون المتخرج منها ذا نزعة آيديولوجية جهادية عالية جداً. إن هذه الفرضية، وإن كانت مقنعة للوهلة الأولى، تعاني من كثير من المشكلات، إحداها: أن أعداد المنضمين إلى الحركات الجهادية في سورية من الدول الأوروبية ودول عربية علمانية الطابع؛ أعلى أو مماثل أو قريب من أعداد المنضمين إلى هذه الحركات من بلادنا. أما الأمر الثاني فهو إن كان نظام التعليم مؤثراً بهذا الشكل، فلماذا لا نرى تأثيره في المواطنين من المذاهب الأخرى؟ إن قيل أن أُسر هؤلاء أو منظماتهم الأهلية أو مساجدهم قوية وتعمل على تخفيف أثر هذا التعليم الديني عنهم، فنقول إن غيرهم كذلك يتأثرون بأسرهم والمؤسسات الاجتماعية والإعلام وغيرها من الظروف. وضمن هذه الفوضى لا يمكن الدفاع عن رابطة سببية واحدة. إلا أن هذا ليس هو الجانب المثير في هذا الخطاب، بل ما هو أكثر إثارة هو فرضيته الأخرى التي ترى أن مناهج التعليم السورية بريئة من التهم التي توجهها الآلة الإعلامية التابعة للنظام السوري عادة إلى السلفية أو الوهابية أو أنظمة التعليم السعودية. إن إلقاء نظرة على هذه المناهج ليكشف مدى الهشاشة التي تقوم عليها حجّة المناهج هذه. لنبدأ بالجهاد، ففي المقرر المخصص للتربية الإسلامية للسنة التاسعة السورية نجد أن الجهاد في هذا الزمان هو فرض عين. إذ نقرأ: «أن الجهاد اليوم هو فرض عين؛ لأن بلداننا معرضة لهجوم الأعداء ولأن جزءاً من أراضينا ما زال محتلاً من العصابات الصهيونية التي تهدد وجودنا». وعلى رغم أن سورية بلد متعدد الأديان والمذاهب، وأن السلالة المهيمنة عليه تنتمي إلى المذهب العلوي، إلا أن الإسلام يدرس على المذهب السني تحديداً، أي أن الدروز والعلويين والإسماعيلية لا يدرسون مذاهبهم في المدرسة (وإن كان الدروز، كما يقال، قد طلبوا ذلك بأنفسهم). وهذا يعود بجذوره، كما يرى المحلل جوشوا لانديس، إلى اتفاقية توحيد المناهج التعليمية بين كل من سورية ومصر والأردن في عام ١٩٦٧، إذ تم تأسيس نظام تعليمي ومناهج تعليمية موحدة بين هذه البلدان. أما بالنسبة إلى نظام الحكومة الإسلامية فإنها في مقرر الصف الثاني عشر يجب أن تكون مستمدة من الشريعة، وهي ينبغي ألا تكون حكومة ديموقراطية أو جمهورية، بل يجب أن تكون شوريّة. وفيها يتم اعتبار المواطنين من غير المسلمين من المسيحيين واليهود من أهل الذمة. وأهل الذمة في الحكومة الإسلامية يتمتعون بكل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، لكن يُحرَمون من الحقوق السياسية. وأخيراً، في ما يتعلق بالملحدين والمشركين (كالإيزيدية مثلا)، فإن المقرر الذي يدرس في نظام البعث ينص على أن الإسلام يجب أن يحارب هذه الفئات؛ لأنهم يمثلون عدواناً على الفطرة والحقيقة، وأن هذه العقائد تتناقض مع حرية الاعتقاد، ذلك أن هذه الحرية محصورة في أتباع الأديان السماوية الثلاثة. ماذا يجب إذنْ على المسلم أن يفعل اتجاه هذه الفئات؟ يجيب المقرر السوري: «بأن الإسلام لا يقبل سوى خيارين فقط من المشركين: إما أن يتحولوا إلى الإسلام أو أن يُقتَلوا». هل يمكن أن نستخدم هذه النصوص المدرسية، ونربطها بما يقوم به تنظيم داعش، الذي جزء كبير من جنوده سوريون- على الأراضي السورية؟ هل نفترض علاقة سببية بين الطرفين لنقول إن تدريس هذه المناهج هو سبب هذا التطرف؟ لا أعتقد أن المشتغلين بالصناعة المربحة المندرجة تحت يافطة «تجديد الإسلام أو تنقيح التراث» سيقبلون بنتيجة كهذه. إن تبني الأفراد لهذه الآيديولوجيا السياسية أو تلك، لا يخضع -غالباً- لما تعلمه في المدرسة، بل هي محصلة لسلسلة من الظروف السياسية التي ينشأ ضمنها الفرد. إن الأفراد لهم إرادة وهم مسؤولون عن أفعالهم، ونظرية ربط التعليم بالآيديولوجية السياسية تنزع عن الفرد هذه الإرادة والمسؤولة وتحوله إلى ضحيّة بحاجة إلى إنقاذ أو حماية. * كاتب سعودي. sultaan.alamer@gmail.com
مشاركة :