الحيّة التي أحبت خرطوم ماء

  • 2/5/2019
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

من لا يعرف قصّة “الحيّة الحولاء” التي ضيّعت أزهى سنوات شبابها في حبّ “نربيش” من الكاوتشوك بحديقة الجيران. هكذا علمت هذه المغفّلة الخجولة الحمقاء بعد رحيل العمر أنّها كانت تطارد طيف جثّة خرطوم مطّاطي لا روح فيه، ربّما أغواها لونه الناصع الممدّد بقامته الرشيقة فوق العشب وهو يطلق فحيحه الصارخ بفعل الماء الذي يضخّ في بطنه الأجوف. ما أوحش حظّ العشّاق الذين خانتهم الرؤية، خدعتهم الأثواب المستعارة وشوّشت عليهم المسافة الفاصلة بين الرصيف الذي يقفون عليه وسور حديقة “حبيبة قلبهم” المسجونة في قصر مسحور. ما أكثر البسطاء وأشباه المبصرين من الذين فتنتهم أقوال جرذان الفساد والفتنة والعمالة في بلادنا العربية وهم يعتلون المنابر المنمّقة، يختفون خلف العبارات المدوّية ويخاطبون الغرائز والأوهام الغافية في صدور العامّة والدهماء. خلق الإنسان بطبيعته متطلّعا ومشدودا إلى كل من هو أبعد مسافة وأغرب سلوكا وأكثر فرادة وغموضا في خطابه، كما أنه لا يطرب عادة إلى مزامير حيّه التي ينام ويصحو على أنغامها المتكرّرة فيحتاج عندئذ إلى الجديد -أيّ جديد- وإن كان غير مأمون العواقب أو حتى مزيّفا، كما حدث مع الحيّة المنكودة الحظ. اسمحوا لي أن أذهب أبعد من ذلك في قصّة حب “الحيّة والنربيش” وأزعم جازما بأنّ العاشقة الحولاء كانت تعلم علم اليقين أنّ حبيبها لم يكن إلّا “خرطوما” أصمّ، لكنّها فضّلته على “فتية الحيّ” المتودّدين إليها من بني وكرها، فاختارت الوهم البرّاق على الواقع الباهت، ثمّ ارتدّت إليها بصيرتها قبل بصرها وراحت تندب خيارها العاثر -بعد ليالي السهر والسهاد- قانعة بأنّ الذي تعرفه وتجرّبه قد يكون أحسن بكثير من الذي لا تعرفه. هكذا لدغت الحية نفسها عبر حبّ من طرف واحد، ثمّ ما لبثت أن تابت عن عشقها بعد أن أدركت أنّ الحياة شراكة أو لا تكون، ولكن مع من؟ ولأجل ماذا هذه الشراكة التي لا بدّ منها؟ ربّما كان ذاك الذي يتمدّد فوق عشب الحديقة أفعوانا حقيقيّا من لحم ودم، لكنّه بقلب بلاستيكي لعوب لا ينبض ولا يحسّ، فخيّرت العاشقة أن تزحف على جرحها، تطوي الصفحة وتعتبره مجرّد خرطوم أصمّ ثم تلتفت إلى الصادقين من بني جلدتها وسكّان حيّها. لعلّ كلّ القصّة مجرّد حكاية غواية وغواية حكاية.. ربما هذا هو السؤال الذي أطلقه شكسبير على لسان أميره في مملكة الدنمارك التي كانت تفوح منها رائحة الخيانة آنذاك، ولا تظهر الحقيقة إلّا على شكل طيف لا يراه إلّا من يريد أن يراه.

مشاركة :