بالنسبة إلى الجمهور الفرنسي خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر، لم تكن مدام بوفاري رمزاً لفرنسا... ولا حتى لويز ميشيل بطلة الكومونة كانت رمزاً... صحيح أن كلاًّ من هاتين البطلة الروائية والبطلة الحقيقية المناضلة كانت لها سمات شديدة الفرنسية، لكن كلاًّ منهما كانت ترمز إلى فرنسا بشكل جزئيّ فقط. أما نانا، الشخصية التي ابتكرها إميل زولا، فقد بدت أكثر من الاثنتين الأخريين حاملةً سمات المجتمع الفرنسي في ذلك الحين، أو لنقل بالأحرى سمات المجتمع الباريسي. ولكن، ألم تكن باريس في حينه فرنسا كلها؟ «نانا» إميل زولا هي المعادل الفرنسي لـ «لولو» الجرمانية... بل حتى لكل تلك النساء اللواتي إذ يجعل منهن القدر في شكل أو آخر ضحاياه، لا يتورعن عن المجابهة، وعن التعامل مع المجتمع، ومجتمع الرجال في شكل خاص، على أن عليه أن يكون هو ضحيتهن. ومن هنا يتساوى الخير والشر، وتصبح الإدانة، أي إدانة، غير ذات جدوى طالما أن الكاتب لم يشأ لنفسه في الأصل أن يكون واعظاً أو حكماً أخلاقياً. > من هنا، قد يكون من الصعب التعاطف التام مع نانا، بل سيكون من الصعب حتى تبرير كل تصرفاتها، فكيف بالتماهي معها لكي تصبح بطلة روائية ميلودرامية حقيقية؟ ولكن من الصعب في الوقت نفسه إدانتها، على اعتبار أنها من ذلك النوع الفتاك من النساء، اللواتي ليس لهن -عادة- ضمير يردعهن عن ارتكاب الآثام والشرور الناتجة منها. غير أن هذا لا يعني بالطبع أن المرء يمكنه أن يبقى على الحياد تجاه تلك الشخصية. ثم من قال أصلاً إن إميل زولا كان يريد لقارئه أن يبقى على الحياد؟ ومن قال، في طريقه أيضاً، إن إميل زولا إنما شاء هنا أن يرسم صورة لامرأة بصفتها امرأة لا أكثر؟ الحقيقة هي أن نانا هذه كانت، كما أسلفنا، ترمز إلى المجتمع الباريسي الصاخب في ذلك الحين، بكل ما في ذلك المجتمع من خير وشر، من سلبية وإيجابية... حتى من دون أن يكون ثمة تطابق تام، في الأحداث على الأقل، بين «نانا» وذلك المجتمع. > نشر إميل زولا رواية «نانا» في العام 1879، وهي في الأصل تشكل الجزء التاسع من سلسلة رواياته المعروفة باسم «روغون ماكار». والمعروف عن روايات تلك السلسلة أن شخصياتها تختفي ثم تعود بين رواية وأخرى... فبعض الشخصيات قد يكون رئيسياً هنا فيصبح ثانوياً هناك... وهكذا. أما رواية «نانا»، فنجدها -كما يؤشر عنوانها- تتحلق حول تلك الصبية الحسناء، آنا كوبو، التي نعرف منذ البداية أنها ابنة العاملة جرفيز من رجل مدمن للخمر كريه لا يهتم أيما اهتمام بأسرته، وتشتغل في المكوى... والأم والأب هذان سبق أن تعرفنا إليهما شخصيتين رئيستين في جزء سابق من السلسلة هو «المسلخ»، أما هنا فإن وظيفتهما فقط هي إنجاب آنا (نانا)، تلك الحسناء الرائعة التي يغطي حسنها على فقدانها أي موهبة من المواهب. إنها فتاة بالغة الجمال، لا تخلو شخصيتها من الدهاء... ومن هنا ستلعب ذلك الدور الكبير في حقبة من مسار المجتمع الفرنسي تتابعها الرواية. > المرة الأولى التي تطالعنا فيها نانا في هذه الرواية، هي حين تكون على وشك البدء بالقيام بدور البطولة في مسرحية غنائية تُقدّم على مسرح المنوعات. ندرك بداية أن المسرحية سخيفة، حتى لو كان عنوانها مغرياً («فينوس الشقراء»)، وندرك بداية أيضاً أن نانا نفسها لا تجيد الغناء مع أن بطولة المسرحية تتطلب منها ذلك، ناهيك بأنها لا تعرف شيئا عن التمثيل. بالنسبة إلى الفن، من الواضح أن نانا مجرد صفر لا يتحرك... ولكن على العكس من هذا جمالها ودلالاها وسحرها... ومن هنا، ومن دون أن يثني أحد على «مواهبها» الفنية، نراها موضع إعجاب الرجال جميعاً... إنهم هنا كلهم لكي يخطبوا ودها... وهم يتتابعون في حياتها خلال تلك الحقبة على الأقل، اذ ها ه، أولاً المصرفي شتاينر، الذي ينفق عليها، من أموال المصرف طبعاً... لكنها سرعان ما ستتخلى عنه لكي تعيش إلى جانب الممثل فونتان ذي الطباع الضارية والذي يذلها قبل أن يتخلى عنها... وإثر ذلك تتكشف لنا نانا على حقيقتها: امرأة تعرف أن لا أحد يحبها في الحقيقة، وهي نفسها لا تحب أحداً... لذلك تقرر أن تتحول إلى فتاة هوى... لعلها تفلح في هذه المهنة... وتقرر أنها في مهنتها الجديدة هذه ستسعى إلى تدمير كل أولئك الذين يرغبون فيها. لقد آلت على نفسها أن تصبح أداة في يد الشر لممارسة حقدها على البشر... وهكذا يتوالى على حياتها العشاق وهي تواصل تدميرهم واحداً بعد الآخر من دون شفقة أو رحمة: فاندافر المتأنق السخيف، ثم لافالواز الذي يتمتع بالحياة الرخوة من دون أن يشعر بأي مسؤولية، وصولاً إلى الكابتن هوغون الذي تدفعه إلى السرقة كرمى لعينيها، ما يدمره على الفور، تاركاً الساحة أمام أخيه الأصغر يغرم بنانا بدوره... لكن الأمر ينتهي بهذا إلى الانتحار. > إن نانا إذ تنتقم من «ظلم المجتمع» إياها عبر تدمير كل هؤلاء... تبقى على ظمئها، حتى وإن لم يبدُ أنها تدرك حقاً ما تفعله. إنها تسير مع الحياة كما هي، وتسيّر الحياة كما هي، من دون أن تقف لحظة لتسأل نفسها عن الغاية العميقة والبعيدة من ذلك كله. غير أن كل ما كانت فعلته حتى الآن يظل لاشيئاً مقارنة بما تفعله مع الكونت مارتل، الذي هو أصلاً أحد كبار موظفي القصر الإمبراطوري. إن الكونت مارتل رجل خجول ودائم الارتباك، يتردد عادة في كل شيء... لكنه لا يتوانى عن الوقوع في هوى نانا. أما هي، فتستغله أبشع استغلال وتعامله وكأنه خادم صغير، مستعبدة إياه إلى أبعد حد، وتبقى حريصة دائماً على أن تذله أمام أعين الناس أجمعين، قبل أن تسلم نفسها إليه في مقابل ما تتوقعه منه من مكاسب طائلة... ولكن لأن لكل شيء نهايته، ينتهي الأمر بنانا إلى أن تسأم حتى الموت من هذا المجتمع، فتقرر أن تعزل نفسها في قصر فخم يبنيه الكونت الأحمق، لكنها لن تكون وحيدة في عزلتها، بل ستكون مع الكونت وقد قررت لوهلة أن تبقى وفية له... غير أن هذا لا يدوم طويلاً، إذ إنها سرعان ما تستعيد مزاجها التدميري وتروح مدمرة كل الرجال المحيطين بها في محيطها الجديد، بدءاً بالكونت المسكين، كاشفة لهم خيانات زوجاتهم وعلاقاتهن، وصولاً إلى عشيقها، الذي تكشف له عن علاقة زوجته بأحد الصحافيين. هنا تبدو نانا ملاك انتقام حقيقياً... صحيح أن ما يتلو ذلك سيحطمها هي بين الآخرين، لكن ذلك لن يزعجها على الإطلاق طالما أنها تجد في دمار الآخرين أمام عينيها وبفضلها، لذةً ما بعدها لذة، وفي النهاية نجدها في غرفة فندق وحيدة مريضة تحتضر. وفي الوقت الذي يكون جسدها قيد التحلل، تعلو الهمسات في الشارع: فرنسا تعلن الحرب على بروسيا. وهكذا... تختفي نانا ويختفي معها في الوقت نفسه بهاء مجتمع باريسي قام على النفاق والكذب... وفق تحليل الدارسين. > والحال أن هذه النهاية هي التي تضفي على «نانا» بعدها الرمزي النهائي، وتجعل من تفتت نانا صورة عن تفتت مجتمع فرنسي معين. وإميل زولا (1840 - 1902) نفسه لم يفته أن يؤكد هذا في كل مرة تحدث عن هذه الرواية التي اعتبرها أكثر رواياته رمزية وتعبيراً اجتماعياً. كما أن قراء زولا أنفسهم ينظرون إلى «نانا» باعتبارها أقوى أعماله، وهو رأي يشاركهم فيه عادة الموسيقيون والسينمائيون والرسامون الذين كانت «نانا» على الدوام مصدراً لإلهامهم... ومنهم طبعاً السينمائي جان رينوار، الذي حوّل هذه الرواية إلى فيلم حقَّقَ حين عُرض نجاحاً كبيراً، واعتُبر من أفضل أفلامه بعد «الوهم الكبير» و «قواعد اللعبة».
مشاركة :