في كتاب “الذات في مرآة الكتابة: قراءات في نماذج عُمانية معاصرة”، تواصل الكاتبة العُمانية عزيزة الطائي رحلة استكشاف هذه الذوات من خلال قراءة نماذج من المدونة السّردية العُمانية. وترى المؤلفة أن قيمة كتابات الذّات لا تكمن في صدقها الواقعي إزاء الأحداث التي تسردها، ولا في أسلوبها الجمالي، بل تكمن في الشهادة الإنسانية التي تقدّمها. نصوص مؤسسة تقرُّ الطائي في كتابها، الصّادر مؤخّرا عن مؤسسة عُمان للصحافة والنشر والإعلان 2019، بأن علاقة الذّات بالكتابة مُتجذرة في الكثير من كتابات الروّاد، كما تقول إن رصيد الأدب العُماني الحديث من الكتابات المذكراتيّة على وجه العموم، رصيد ضارب بجذوره في تاريخ عمان؛ حيث يعود إلى نهاية القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين. وهو ما يعني أنها تمتد إلى مذكرات سالمة بنت سعيد “مذكرات أميرة عربية”، وقد كتبتها مؤلفتها عام 1866 باللغة الألمانية، إثر هجرتها إلى ألمانيا، واندماجها في هذا المجتمع عقديًّا ومدنيًّا، ومنها أيضًا نص حمد محمد المرجبي “مُغامر عُماني في أدغال إفريقيا”، وقد كتب النص باللُّغة السواحليّة الأفريقيّة. أما النص الثالث، فهو مذكرات عبدالله الطائي، وفيه يحكي عن تجربة المنفى والنِّضال السياسي في الستينات.يأتي الكتاب الجديد كمحاولة لمقاربة نماذج سردية مُحدّدة من كتابات الذات في عُمان، في إطار زمني مُحدّد في الفترة من (2013-2017)، وعبر تنوُّع مكاني. وتهدف المؤلفة من هذا التنوّع المكاني والامتداد الزماني إلى إبراز ما في هذا المشهد من سمات، وما عَرفه من تحولات، وما انطوى عليه من قضايا وإشكالات. وإن كان في ظني هذا الامتداد الزمني المحدّد جدًّا، لا يُساعد على إبراز ما ابتغته المؤلفة، فالفترة قصيرة، كما أنها على الصعيد المحليّ وأيضًا العالميّ، لم تشهد تحولات جذرية باستثناء إخفاقات الربيع العربي، التي لم يكن لها أي تأثير على الصعيد العُماني. وإن كان الزمن المرجعي للسير أوغل في الماضي البعيد. وعن أسباب اختيارها لأربعة نصوص لثلاثة كتاب، تقول المؤلفة “لما تتميز به هذه النصوص على مستوى الموضوعات والطرح، علاوة على ما وجدته فيها من مجال خصب لطرح أسئلة اشتغلت عليها على مدار أعوام، بالإضافة إلى كونها تمثّل تجربة سيرية استثنائية تنوّعت في أسلوبها الاعترافي الصريح والمضمر في ثنايا النصوص عند التعبير عن الواقع المعيش، والهُويّة الجمعيّة، وحفظ الذّاكرة الوطنيّة”. وبذلك تكون هذه الدّراسة مُتصلة بخصوصيات إعادة إنتاج المرجع في نطاق العملية اللغوية. أما عن الآلية التي تناول بها الكتاب العُمانيون هذا النوع من الكتابات، فتأتي من خلال إبراز القضايا والموضوعات التي تطرّق لها الكُتّاب؛ التاريخيّة والاجتماعيّة، والسياسيّة والفكريّة التي حفلت بها سيرهم، وقراءاتهم لها، وما أثّر بها من ظروف وآثار. وأيضًا من خلال إبراز السّمات الفنيّة لدى الكتّاب، خاصة الخصائص الفنية لكتابات الذات والتمايز بينهم في مستويات الأداء الفني، وكذلك الوقوف عند أبرز أنواع الكتابة الذاتيّة التي اختاروها عند ترجمتهم لذواتهم من بين أنواع كتابات الذات، علاوة على تلمُّس حضور الحاضن المكاني في تلك الكتابات، وطرائق مُقاربة الكتّاب لمكوناته الحضاريّة، والجماليّة، والاجتماعيّة، والثقافيّة. وأخيرًا تَبيُّن دوافع كتابتهم عن ذواتهم، والبحث عن حقيقة الذّات الخفيّة في مُختلف علاقاتها المتشعِبة بالشّبكات العَلائقيّة الاجتماعيّة كما يرى جورج غوسدورف. النص الأنويتعترف المؤلفة بأن ترجمة الذات في الكتابة أخذت مساحة إبداعية جديدة، لها حضور متنوّع الكتابات في عُمان خلال الألفية الجديدة، كما أنها لا تتوقف بل سائرة يومًا بعد يوم إلى التشكُّل والتنوُّع من جهة، وإلى التطوُّر والنضج من جهة أخرى بفضل ما يتحقّق لها من روافد كتابيّة حديثة. ووفقًا لهذه الخصوصية تقول إن المتتبع لأنواع كتابة الذَّات في الأدب العُماني يرى أنّها تتجاوز تعيين الخصوصيات النصيّة المندرجة ضمن القراءة الوصفيّة إلى معضلتي التصنيف والتنظير اللّتيْن يكون بهما النص مُندرجًا في نوع من أنواع كتابات الذّات. ومن هنا تركز المؤلفة في دراستها على ثلاثة مستويات تتمثل في: التلفظ والملفوظ والتقبل، وهي مستويات ترى أنها تمكنها على الحضور الأنوي في ثلاثة مسالك. الأوّل قوامه دوران الفعل لكتاب السّير ذاتي عمومًا على تأسيس الهوية المتلفظة بـ”الأنا” وقد مثّلت له بنص عبدالله البلوشي “حياة أقصر من عمر وردة”، بما يمثّله هذا النص من أهمية خاصّة فيما يصطلح عليه محكي الطفولة. والثاني خروج الأنا السير ذاتية المتشظية من صيغة المفرد إلى صيغة الجمع، لغاية توسيع دائرة الذاتية الوجودية والاجتماعية، ويمثله نص “مقتنيات وطن وطفولة” لعادل الكلباني، وفي هذا النص يستجلي الكلباني معالم وفترات تحولات عُمان ما بعد عصر النهضة، مازجًا بين السّرد والحوارات ذات الطابع الثقافي، بين رصد المعيش واستحضار حكايات من التراث، مُشتمِلة على حكايات عجائبية. كما أنّها لا تقف عند هذين النصين، بل تذهب إلى امتدادتهما على بعدها الزمني كنصوص مثل “سيرة طفل عماني” لمحمد سيف الرحبي، وسردية محمد العريمي “بين الصخر والماء”، وهذه الصّلة الأجناسية مع اختلاف الزمن تؤكّد مدى صلة كتابة الذّات الطفولية العُمانيّة بمقومات المكان الاجتماعيّة والثقافية والجغرافية، وهذا الترابط الهوويّ بين الذّات والمكان، يشير إلى مستوى تمثيل الذّات رمزيًّا إلى تحسّس النّسَب الأجناسي في مستوى نشوئي أعلى متصل رأسًا بأيّام طه حسين. أما المسلك الثالث فيتمثّل في صراع المثال الاجتماعي للهوية الرافضة للقمع المجتمعي وظلمه وجبروته، مهما كان نوعه اجتماعيًّا، وفكريًّا، وسياسيًّا، وقد مثّلتْ له بنصين لسعيد الهاشمي وهما: “ياسمين على الغياب: رسائل من زنزانة انفرادية”، و”ما تركته الزنزانة للوردة من أوراق النزيل”، وهذه النصوص تدخل ضمن سياق ما أطلقت عليه الأدب الأنويّ، وهو أكثر انفتاحًا على العالم الخارجيّ، مقارنة بالسيرة الذاتيّة، التي تُعنى خاصّة برصد مسار تطوُّر الشخصية، بوصفها ذاتًا فريدة متفردة. وترى الكاتبة أن أدب السجن أو حسب اصطلاحها “الأدب السّجنيّ” يكشف عن مدى ترابط المعضلة الهووية بالمكان، ولكنه يبئر على المكان/الوطن باعتباره مقام الصراعات الأيديولوجية، بما هي صراع على السلطة التي ترتبط بمنظومة القيم (العدل/الحرية/الديمقراطية). وبذلك تكون السيرة السجنيّة (وفقا لمصطلحها) هي عنوان الانتماء إلى مشروع وطني إنساني في سياق صراع على السلطة، يُعرّض الأنا إلى أقسى أنواع التعذيب، أي الاختبار. ومن ثمّ تكتسب هذه الكتابة قوة أبعادها الذاتية التي تجعل منها ذاتًا متأرجحة بين الصمود البطوليّ، والانهيار المأساوي، بين الانعزال الانفرادي في الزنزانة، والقدرة على التحرّر المعنوي بفضل الكتابة.
مشاركة :