ثقافة التسامح تحصّن المجتمع ضد قوى التطرف

  • 2/9/2019
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

الشارقة: عثمان حسن تقع الثقافة كمفهوم، في صلب أي مشروع حضاري وإنساني، يبتغي سعادة البشر، ويقوم سلوكهم نحو تحقيق غايات وجودهم، وبهذا المعنى، فإن الثقافة هي قيمة وأساس متين، لبلورة مفاهيم التسامح والتواصل والحوار بين الناس، وبحسب كثير من المفكرين فإنها - أي الثقافة - ذات رسالة سامية، وهي مؤهلة تماماً لتلاقي البشر واحتضان أحلامهم وأمانيهم، لا سيما وأنها تشكل قوة محفزة، بما تطرحه من أسئلة مركزية، تبحث في سعادة البشر وأساليب العيش المشترك، وهي هنا، أقرب ما تكون إلى التسامح كقيمة مضافة، بل مؤثرة في تشكيل الوعي وخلق مناخات من التعايش والحب والوئام.هذه المعاني الجليلة التي تطرحها الثقافة، وجدت صياغات مؤثرة وأساسية، لها في وثيقة «الأخوّة الإنسانية» التي وقعها الإمام الأكبر أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، والبابا فرنسيسن بابا الكنيسة الكاثوليكية، حيث ورد في الوثيقة «إن الحوار والتفاهم ونشر ثقافة التسامح وقبول الآخر والتعايش بين الناس، من شأنه أن يسهم في احتواء كثير من المشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والبيئية التي تحاصر جزءاً كبيراً من البشر».وقد كانت صياغة العبارات التي تربط ما بين الثقافة والتسامح في هذه الوثيقة، ذكية جداً، في تأكيدها على الدور البنيوي، الذي تلعبه الثقافة في خلق مناخات حرة من التسامح والحوار، واستثمار «ميكانزمات» كل من الثقافة من جهة، والتسامح من جهة أخرى، لتوليد قوى مضاعفة في المفهومين، وبث حيوية جديدة لمصلحة البشر، جراء ما ينتج عنهما أي -الثقافة والتسامح- من قوى إيجابية تشحن الوعي البشري بطاقة مضاعفة، تؤدي إلى اكتشاف ما لدى البشر من إمكانات فريدة، في الحوار والإخاء، ضمن مفاهيم المشتركات الإنسانية الخلاقة.ما الذي يجعل لهذه الكلمة «الثقافة» كل هذا التأثير، وكل هذه الحيوية، في تشكيل الوعي البشري، وتحصين المجتمعات من أي عوارض اجتماعية أو سياسية طارئة؟هو سؤال كبير يحتاج من المثقفين والمفكرين، إلى دراسته في ضوء ما بات يشكل خطراً على البشرية جراء الحروب والكوارث والمجاعات والأوبئة، وفي ظل ما بات يهدد كيان هذه البشرية، من تشظيات وتشتت ونفي ومصادرة.الثقافة والتسامح، رافعتان معنويتان، وقوتان ناعمتان، تستحقان من المفكرين والكتاب، والموجهين والتربويين، أن يسهموا في إبراز جوهر كل منهما، سيما وأن نشر الثقافة بين بني البشر، يؤدي بالضرورة إلى خلاصة مؤداها نشر التسامح.وحين تنجح مثل هذه المساعي، «مساعي نشر ثقافة التسامح» في التركيز على قيم وجوهر الإخاء الإنساني، فإننا نضع أول عتبة على «سكة» التفكير السليم، والتقاء البشر عند هذه القيم، وعندها فقط، فلا خوف على المجتمعات من الاستمرار في سعيها لتحقيق السعادة، ونبذ ثقافة الحروب والدمار، وطرد كل قوى الظلام والعنف، وكافة أشكال الأوبئة الاجتماعية، التي تشكل خطراً على الإنسان، وتبتز أحلامه في حياة أفضل، أو تقلص فُرَصَه في الوجود.إن البحث في أساس ثقافة التسامح، يتطلب وقفة لتفسير مفهوم الثقافة أولاً، هذا المفهوم الذي أصبح متداولاً بكثرة، بل أصبح ذا أهمية كبيرة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، فقد دخلت الثقافة في نسيج علم الاجتماع والأبحاث الثقافية، وفي علوم النفس والإدارة والتخطيط، وكان التركيز عليها - أي الثقافة- حاضراً في أجندات المفكرين والمثقفين والباحثين على نحو يؤسس لنقلة جديدة في تطوير نظم المجتمع، انطلاقاً من دورها في توجيه سلوك الأفراد نحو التعلم، وفي ضوء ما وفرته المعارف والتكنولوجيا الجديدة، ووسائل الاتصال الجماهيري بين البشر.لقد حسم العالم المتقدم اليوم، سعيه لتجاوز مشكلات الحاضر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بتركيزه على الثقافة، وسعيه لتشكيل منظومة معرفية، ذات بُعد كوني وإنساني، وبحسب بعض المفكرين، فإن الثقافة وحدها لا يمكن أن تكون مؤثرة، حين يتم عزلها عن بقية المقومات مثل: التعليم، والتنمية، وتحسين الأحوال المعيشية، وتطبيق القانون، وتجريم التمييز بكل أنواعه في الدين والعرق والثقافة والنوع... إلخ، وبهذه المقومات جميعاً، تصبح الثقافة أكثر فاعلية، بل تمسي قوة فعالة، وهنا، تصبح أكثر قرباً من قيم التسامح، التي تقود المجتمع نحو كل ما هو إيجابي وهادف، وبدقة أكثر، تصبح قريبة جداً من قيم الصدق والعدالة والإنسانية، وتتحول إلى ممارسة وقيمة تضبط السلوك الفردي عبر عملية اجتماعية واقتصادية وثقافية، وتصبح ذات قيمة أكبر في ترسيخ مقومات الجوهر الثقافي والفكري، بوصفها تعبر عن تطلعات غاية في السمو والحب والتعاطف، والتسامح.وإذا كان المفهوم الثقافي، لا يتأسس من دون تلك المنظومة الجامعة من حصيلة الضوابط والأفكار والتشريعات التي يتفق عليها البشر في أي مجتمع من المجتمعات، فذلك أيضاً هو شأن مفهوم التسامح، الذي يتعزز بجملة من القيم، كما يتبلور بتخصيب هذه القيم، وإعادة إنتاجها في ضوء فهم جديد يجافي سلبيات ومخاطر التعصب الفكري والرأي الواحد، وبتعزيز الثقافة الشخصية، وترك مساحة للحرية، تضمن توالد مزيد من الأفكار الإيجابية، كالحق في الاختلاف والاجتهاد وإبداء الرأي.هنا، تتشكل مقومات التسامح، في ضوء بيئة الإبداع والتفكير والاجتهاد، للوصول إلى آفاق رحبة من تقبل الآخر، والعيش المشترك.هنا، نستدل على قيم التسامح، من تفعيل مبادئ وأفكار التسامح ذاته، كمفهوم يبحث عن الحقيقة، وهو جهد لا يدعي فرد واحد الإحاطة به دون الآخر، وهنا فقط، تترسخ مبادئ التسامح المسنودة بكل القوى والفاعليات الثقافية والفكرية، التي ترسخ قيم المشاركة والحوار والإيجابية.إن الدور الثقافي المسنود بقيم التسامح، هو دور محوري في تحقيق رفاه الفرد والمجتمع، فلا تسامح من دون وعي ثقافي وفكري، ولا تسامح من دون بيئة جاذبة للأفكار والثقافات الإنسانية جميعاً، ولا تسامح من دون تقبل الآخر، حتى في تناقضاته وتوجهاته الشخصية والحياتية، وبكل تأكيد في ضوء عدم المساس بحرية الآخرين، وتوجهاتهم وقناعاتهم، التي لا تضر أحداً، ولا تعطل مساحة الحوار واللقاء بين الجميع تمهيداً لتقوية روابط المحبة والتعارف والتفاهم.إن الثقافة هي في أساس توجهها، تمثل قيمة كبيرة في التسامح والمحبة، فالثقافة هي فعل تسامح، وهي محبة وقوة فاعلة في أرض المحبة، الثقافة هي عمل مفتوح على مساحة الخير والتسامح، وهي عالم مكون من الخير والجمال، وكل ما يسعد الإنسان والبشرية، إن مقاربة مفهوم الثقافة على أي وجه من الوجوه، إنما يسمح بالتحرك في فضاء المحبة والتسامح.لقد أبدع المفكرون في توصيف الدور الثقافي، وصلته في تعزيز قيم التسامح، بل إن البعض قد قارب بين المفهومين بصيغ أدبية وشعرية ذات دلالة، كقول البعض «إن الثقافة هي فن الحياة، والتسامح هو عصب هذا الفن».فلنجعل من الثقافة درساً توعوياً، ورائداً، وقابلاً للحياة، ولنجعل منها أساساً في الرقي وتنمية الذوق، ولنجعل من هذه الثقافة قوة كبرى، تضخ في شريان التسامح وتعمل على تشتيت غبار الحقد والكراهية، ولنشترك جميعاً في إطفاء نيران العنف والمغالاة والتطرف، والتخلف الاجتماعي، نحو حلم جديد من «الثقافة والتسامح».

مشاركة :