الإسلام الشعبي يمثل التركيز على نقاط اللقاء ونبذ نقاط الخلاف أي تقديم النوايا الحسنة على السيئة لإنشاء حوار دائم ولا ينقطع عبر مقولة: كل إنسان خيّر حتى يثبت العكس.العرب حكيم مرزوقي [نُشر في 2017/12/14، العدد: 10842، ص(13)]احتفالية دينية شعبية أعياد الميلاد على الأبواب، وكثيرة هي المدن التي تجمع المسيحيين مع المسلمين في العالم العربي، والأكثر منها هو حالات الحنين والتذكّر المغمّس بالكثير من الحسرة والتألم على ما آلت إليه مدن كانت معروفة بالتنوع والتعايش الديني، وما حل بها اليوم من دمار روحي وعمراني مثل مدينتي الرقة السورية والموصل العراقية على سبيل المثال لا الحصر، وذلك بسبب تسرب الوباء التكفيري وتمكّن عقيدة الكراهية من نفوس شباب كان الأجدر بهم على الأقل، أن يعيشوا ذلك الإسلام الشعبي البسيط كما عاشه آباؤهم وأجدادهم. كان هناك هذا التداخل -إلى حد التماهي- بين أبناء العقائد المختلفة في الاحتفالات الدينية التي تعتبر ملكا للجميع، وعادة ما ينتظرها ويتحضر لها أبناء الديانة المختلفة أكثر من أصحابها وهو جنوح غريزي نحو التعددية والاختلاف، يوفّره التدين الشعبي ذو الطابع الفلكلوري الأخاذ. فمن حوّل التدين من حالة احتفالية تسامحية إلى عقيدة عدائية قتالية؟ التدين بمفهومه الشعبي العريض وبطقوسه الاحتفالية البهيجة، فضاء للتسامح والفرح والالتقاء بالآخر. إنه الإسلام الذي نحبه ونتمناه بعد أن أوشكنا على فقدانه بسبب اجتياح الأصوليين والمتزمتين والتكفيريين لحياتنا ومصادرتهم لتلك الغبطة الحقيقية التي كانت تملأ قلوبنا وتجعل الغد أكثر أملا والعيش جديرا بأن يُعاش. الإسلام الشعبي ليس تدينا بمعنى الالتزام الطقوسي والشعائري، وليس حالة من الرهبة والخوف والتوجس من الآخر.. إنه لا يترك لديك حتى الوقت في التفكير بشيء اسمه “الآخر” أصلا، بل إنّ هذا “الآخر” يصبح محبوبا ومرغوبا فيه وأساسا لا بدّ منه لاكتمال الأفراح والطقوس الاحتفالية في الإسلام الشعبي. الإسلام الشعبي هو التركيز على نقاط اللقاء ونبذ نقاط الخلاف أي تقديم النوايا الحسنة على السيئة لإنشاء حوار دائم ولا ينقطع عبر مقولة: كل إنسان خيّر حتى يثبت العكس. أما العقيدة العدائية فمبنية على مقولة: كل الناس أشرار حتى يثبتوا العكس. والمقصود بالعكس هنا هو الانخراط في عقيدتهم التكفيرية. وحتى هذه العقيدة التكفيرية فإنها قد بدأت تكفّر نفسها بنفسها.. أليس هذا ضربا من ضروب المهزلة. في جمهرة الإسلام الشعبي هناك حضور دائم للبشاشة وإيمان بأن كل مختلف يجب أن نرحب به فلعله أكثر قربا إلى الله منا. أليس من ألق الاحتفال الديني هو أن يزورك الآخرون ويسعدون لسعادتك في محل احتفالك، يتفرجون عليك وأنت “متلبّس” باحتفاليتك ومتماه مع شعائرك التعبدية التي لا يمكن أن تكتمل مفهوميتها إلاّ في عيني وذهن الآخر المختلف.. لا دين إلا بوجود دين آخر وأديان أخرى مختلفة عنه.ما أقسى وما أمر أن يحتفل المؤمن بطقوس عقيدته متسترا بجنح الظلام وهو خائف من أغلبية دينية تسلطية تمنع الفرح في أعياد المولد النبوي، مثلا، تزدحم على وجه الخصوص، أسواق مدينتي القيروان التونسية والقاهرة المصرية وتقام الاحتفالات والولائم وتصدح الأناشيد والمدائح، ويتقاطر الزائرون من الجاليات الأجنبية لمعايشة تلك الاحتفاليات التي يدعو السلفيون والتكفيريون إلى إلغائها باعتبارها بدعة. والسؤال هنا يتمثل في: بماذا يريد التكفيريون والأصوليون أن يعوضوا هذه الاحتفاليات؟ الجواب معروف وقد عايشه التونسيون أثناء حكم حركة النهضة والمصريون أثناء حكم الإخوان، وهو أن هذه الاحتفاليات يريدون أن يعوضوها بخطابات الكراهية والتكفير والتحريم والترهيب بدل مظاهر البهجة والسرور في أعياد المولد النبوي، حتى أن المصريين يطلقون في لهجتهم كلمة “مولد” على احتفاليات كثيرة أخرى لا تعني بالضرورة إحياء ذكرى المولد النبوي. أليس غريبا ولافتا أن تزدحم الأسواق وتنشط المنتديات ويفرح كل الناس في الأعياد والاحتفالات الدينية في البلدان التي لا تحكمها أنظمة إسلامية تدّعي الاحتكام إلى الشريعة؟ في فضاءات التدين الشعبي ذي الطابع الفلكلوري، لا يسألك أحد عن دينك بل ربما يسألونك: لماذا لست مغتبطا وسعيدا وكيف السبيل لجعلك مغتبطا وسعيدا؟ يأتي التكفيريون لجعلك “لا مغتبطا ولا سعيدا”، يختطفون البهجة ويعادون الإسلام الشعبي لأنه شعبي بالفعل، ينبض حياة واحتفاء بهذا الوجود الكريم ثم يعوضونه بـ“إسلام” آخر، هو ليس من الإسلام في شيء بل حالة من العبوس والنكد والكراهية والتحفز ضد الآخر. العنوان الاحتفالي للإسلام الشعبي هو الفرح ولا شيء غيرالفرح، أما الأصولية فتحتفل بالتجهم والكراهية دائما وإلى الأبد. الإنسان كائن احتفالي بطبعه، ويبحث في كل ديانة وعقيدة يعتنقها عن فرصة للاحتفال فينقضّ عليها بكل حماسة وعنفوان للقول بأنه على قيد الحياة، وعلى طريقة شخصية زوربا اليوناني في رواية نيكوس كازنتزاكي. إنه الكوجيتو الأبدي: أنا أحتفل إذن أنا موجود. وإذا ما فرغ الإنسان (هذا الكائن الاحتفالي) من احتفالاته الخاصة، يذهب نحو احتفالات الآخرين ليشاركهم فيها، دون تقييمات لاهوتية وإيمانية ولا من يحزنون. إنها غريزة البقاء عبر تصيّد فرص الاحتفاء وتقديسها مهما كان مصدرها الديني، وإذا ما استطاع إليها الإنسان سبيلا. ثمة طوائف ومذاهب تمثل أقليات من حيث العدد، لكنها تصبح أغلبية لأنها تثير انتباه المحيط الإنساني فيتعاطف معها أثناء محنها، ويأتي الناس لزيارة ومشاركة هذه الأقلية أعيادها مثل السامريين الذين لا يتعدون الألف في نابلس أو الإيزيديين الذين حاول الدواعش إبادتهم في جبل سنجار أو أهل السنة الذين تهضم حقوقهم في إيران وكذلك المرشديين في سوريا والبهائيين في اليمن والإباضيين في ليبيا والمسيحيين في الجزائر وغيرهم من أصحاب العقائد التي لا تستمر ولا تبقى بين الدكتاتوريات الدينية إلا بفضل الروح التسامحية التي يحتويها التدين الشعبي. ما أقسى وما أمرّ أن يحتفل المؤمن -أيّ مؤمن- بطقوس عقيدته متسترا في جنح الظلام وهو خائف من أغلبية دينية تسلطية، تمنع الفرح وتنشر الرعب باسم الدين. متى استباح التكفيريون الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا، متسامحين ومحتفلين؟ حكيم مرزوقي
مشاركة :