هذا حلال: بمعنى: افعل وهذا حرام: بمعنى: لا تفعل، ولئن كان الأول هو الأصل من حيث مطلق: الإباحة فيما جاءت به الشريعة، فإنّ في الثاني استثناءً قد جاء عرضاً لتقييد: العفو بتشريعٍ فيه من معاني: الابتلاء ما حفِلت به التكاليف. وإذن فإنّ: الحرام بوصفه قيداً للأصل/ الإباحة يكون هو وحده - بهذا الاعتبار- الذي يفتقر إلى: (دليل)، إذ تَضِيق به مساحة: العفو وما هي عليه من سعة.. ومن هنا فطلبُ الدليلِ فقط يتأتى في حال قال لك أحدهم بما يصف لسانه: هذا حرام، حتى لا يفتري على الله الكذب، وعليه فليس يصحّ تأصيلاً طلَب: الدليل لمن قال لك هذا: حلال وليس بخافٍ أنّ غالب الشريعة هو من هذا القبيل أي: الحِل باستثناء العبادات وما يُلحق بها تأصيلا. إلى ذلك.. فلئن كان الحُكم - من حيث تعريفه عند الأصوليين- هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع. فإنّ الحكم بـ: الإباحة مدلول عليه في التعريف بلفظ التخيير ومعناه التسوية ما بين الفعل والترك. وثمّة أصوليّون آخرون جعلوا من: المباح قسماً آخر إذ خرجوا به عن: الحكم التكليفي ذلك أنّ: المباح لا تكليف فيه. بينما نجد التفريق - عند آخرين - بين: الإباحة التي هي حكم والتي ليست بحكم كالفهري في شرحه لتنقيح الفصول- إذ قال: (والصحيح أنّ ما أخذ من خطاب التسوية فهو حكم شرعي ورفعه نسخ، وما أخذ من البراءة الأصلية فليس بحكم شرعي وليس رفعه نسخاً)، ودون أن نتوسّع لنعود ثانيةً إلى ما من أجله كانت هذه الكتابة: فالأصل إذن في الأحكام الشرعية هو نصوص الشارع، ومن يجعل أقوال الفقهاء/ وآراء المجتهدين كنصّ الشارع فقد أتى باطلاً مفتئتاً بذلك على الشريعة. ولا ريب أنّ: الكتاب والسنة هما الأصل فيما ترجع كل: الأدلة المتفق عليها والمختلف عليها إليهما وإن شئت- تحقيقاً - فدونك الآمدي بعد أن ذكر الأدلة قال: والأصل فيها إنما هو الكتاب. ويكفينا في هذا ما كان منه صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال في حادثة امرأة: هلال بن أمية: (لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن)، وذلك أنّ امرأة هلال لما رماها زوجها بالزنا وجاءت بوليدها شبيهاً بشريك بن سحما أكحل العينيين سابغ الأليتين خدلج الساقين.. بيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهمل: الواقع الذي بمقتضاه يوجب إقامة الحد وتغاضى عنه معتبراً ما جاء في: كتاب الله وحسب.! وأيّ سدادٍ ذلك الذي قد هُدي إليه الشافعي يوم أن كتب: ليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها على حين تأتي: السنة مفصّلة ومبيّنة إذ بهما تتوكّد: الأحكام الشرعية وتبقى أقوال الفقهاء فهماً يؤخذ منها ويرد أيّاً كانت فخامة الألقاب الممنوحة لصاحب القول.! من بعد هذا التقرير - والذي أحسبه اليوم بات في حكم البدهي حتى عند العامّة فإنه يمكن القول تأسيساً على ما سلف بما يلي: * إنّ القول على الشيء بـ: الحرمةِ يقتضي: دليلاً وليست: أقوال الفقهاء ولا آراؤهم من الأدلة المعتبرة في شيء.. ذلك أنّ الحكم على الشيء بـ: الحرام إنما يثبت عن طريق الكتاب والسنة أو الإجماع (ذلك أن اجتماع الأمة كائن على ما له أمر في الشرع - أي كتاباً وسنة)، وحيثما كان مِن تنازع بين: العلماء/ الفقهاء في أي مسألة شرعيّة قديمةً كانت أم نازلة، فإنّ الردّ فيه إلى هذه الأصول المعتبرة وحدها. ومن الناس - يقول ابن تيمية -: مَن يكون قد نشأ على مذهب معيّن أو استفتى فقيهاً معيناً فيريد أن يحمل المسلمين كلّهم على ذلك وهذا غلط. * ليس يُمكننا أن ننبذ التقليد إلا في ظلّ إشاعة طلب: الدليل إذ به يثبت: الحكم بحسبانه متن: الأحكام الشرعية في الأثناء التي يجب أن نقصر فيها: أقوال الفقهاء على: الهامش وحسب والذي يتراوح ما بين القبول والرد توجيهاً ونقدا ونقضاً باعتباره: فهماً بشريا لا عصمة له.. ويمكن حمل اختلافهم: المعتبر بوصفه: سعة لا يُثرّب فيها على مَن أخذ بأيّ من الرأيين كما وأنه لا إنكار في مسائل: الاجتهاد بخلاف مسائل: الخلاف! * فتح باب الاجتهاد وما أوتيت الأمة إلا بدعوى: إقفاله وإنّ من أصدأ أقفاله هو: تنزيل أقوال الفقهاء منزلة النص الشرعي.! * عدم قسر الناس على رأي فقيه بعينه وحملهم جملة على رأيه، وفي هذا من التضيق وتوكيد معاني: الحرج وهو ما جاءت الشريعة بابتناء كلياتها على نقيضه رفعاً وتيسيرا. ** جاء في البخاري: عن الزبير بن عربي قال: سأل رجل ابن عمر رضي الله عنهما، عن استلام الحجر، فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله، قال قلت: أرأَيت إن زحمت، أرأَيت إن غلبت. قال (اجعل أرأَيت باليمن. رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله.) * وقال ابن عباس رضي الله عنهما لمن عارض السنة بقول أَبي بكر وعمر رضي الله عنهما: (والله ما أَراكم منتهين حتى يعذبكم الله. أُحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحدثونا عن أَبي بكر وعمر) ـ قال سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب: (فإذا كان هذا كلام ابن عباس لمن عارضه بأبي بكر وعمر. وهما هما. فماذا تظنه يقول لمن يعارض سنن الرسول صلى الله عليه وسلم بإمامه وصاحب مذهبه الذي ينتسب إليه. ويجعل قوله عياراً على الكتاب والسنة، فما وافقه قبله وما خالفه رده، أو تأوَّله، فالله المستعان). نقلا عن مكة
مشاركة :