* أهلا بكم في مقتطفات الجمعة رقم 498 *** * حافز الجمعة: اكتشفت أننا دائما نقول إن الناس لا يختلفون باختلاف أوطانهم، إلا أن هذا لم يثبت بدليل الصراعات الإثنية، والدينية، والحروب الدولية. إلى أن عرفت بدليل الواقع وبحيثيات لا ترد من العاملين المتطوعين الإنسانيين.. أن القلبَ يخفق لكل محتاج مهما كان، من أي بلاد، أو جنس.. *** * قضية الجمعة: جدة غير فعلا. اكتشفت أن في جدة أشياء كثيرة وصارت لي فيها قصص ومفارقات طريفة لاختلاف رتم الحياة عن منطقتي الشرقية. فكان من المفاجئ لي أن أعطي موعدا السابعة صباحا، حتى ينفجر من معي في طرف السماعة الأخرى ضاحكا ويقول بالجداوي: "إبش بك إنتَ، صاحي ولا مو صاحي؟ فيه ناس عاقلة يتواعدوا الساعة 7 صباحا، ها ها، يقطع شيطانك، ضحكتني" ثم أكتشف أن الوقت المتاح هو بعد صلاة الظهر، ولأني أدعي اهتماما وقراءة عميقتين في علم الأنثروبولوجيا ومنه العادات حسب الجغرافيا لمتُ نفسي أن الموعد صار الواحدة ظهرا، وحجزي للعودة في الرابعة عصرا، باعتبار أنني سأنهي لقائي صباحا، ثم أتفرج على المدينة، "وأشوف لي أحد يغديني، وبعدين يأخذني للمطار" يا للسذاجة! يأتي جداوي عزيز، وهم دوما باشّون وخفيفو الروح ومضيفون فيدعوك للعشاء فتفرح، بعد صلاة العشاء تلتهي قليلا بأمورٍ، وتفاجأ أن الساعة صارت 9 مساء، فتجري تعض طرف ثوبك والعرق يتفصد منك خجلا لأن زمانهم جاءوا وأكلوا وربما خرجوا.. تصل لبيت المضيف ولا سيارة في الخارج، فتظن أن أسوأ كوابيسك تحققت، فيخرج لك ابن المضيف وتسأله: "أنا آسف اتأخرت، فين بابا؟" فيجيبك: "بابا في الشغل؟" فتسأل ليه هو ما يجي البيت المسا؟" فيرد عليك متعجبا من ضحالتك: "إلا كيف؟ بابا لازم يرجع الليلة لأنه عازم ضيف نسيت اسمه الساعة 12". إيش؟ طبعا تصرخ داخل نفسك، وهواجيسك مع نفسك بالجداوي لأنك في جدة فتقول لنفسك: "إيش يقول هادا البزُر؟ 12 بالليل أنا أكون في عز النوم.." جدة تبني سلوكيات خاصة بها، ومع ذلك تسير كساعة سويسرية (أو أني أرجو ذلك) هذا غيض من فيض. *** * جدة.. كمان! أسمع عن "الأربطة" في الحجاز التي تسكن بها العائلات والنساء الذين سُدَّت عليهم المسالك وأغلبهم من غير السعوديين و"بإقامات نظامية!"، ولم أتصوره مشهديا حتى أخذنا فريقٌ جميلٌ مختص بتدوير البلاستيك إلى رباط آل محفوظ. دخلنا أحياء خرجّتنا تماما من عالمنا الذي تعودنا عليه، خرجنا من جدة الفارهة والأضواء الساطعة والنشاط التجاري والفكري وزخم التعامل مع موسم الحج.. إلى بقعةٍ خارجها، بل خارج تصورنا، حيث الفقر الإنساني في قاعه، والفقرُ ينهش الكرامة الحية، ويلغي الصفة الإنسانية. ونشكر عائلة "آل محفوظ" لأنه قيل لنا لا يمكن أن تدخلوا الأربطة الأخرى لسوء النظافة، وكان هذا "رباطا" معتنى فيه يلائم على الأقل مستوى الإنسان، وهناك رأينا نورا في مسار مظلم، كيف يعمل المتطوعون ويصلون لمناطق دقيقة لا تصلها اليد الرسمية - وهذا طبيعي - وهنا أيضا أهمية العمل المدني التطوعي، مساعدة الجهات الرسمية في مقاصدها السليمة والصحيحة. شاهدنا الفتيات اللائي لم يكن يملكن ما يقمن به أوَدَهن، إلى عاملاتٍ ماهراتٍ تدر عليهن مهاراتهن الشُغلية رزقا يضمن لهن الثقة وكرامة العيش.. على أن القصة لم تنتهِ هنا.. *** * جدة كمان، وكمان: هناك قصة أخرى وراء مشهد انبعاث نورٍ من قلب الظلام، أو إن شئتم قصتان. قصة السيدة "ندى" العراقية، وقصة السيدة "أوسلا" الألمانية، وهي من القصص التي دوما يعلمني ويفاجئني بها العمل التطوعي خصوصا الإنمائي الإنساني. كلتا السيدتين أمضيتا عقودا في بلادنا، والألمانية متزوجة من سعودي لأكثر من أربعين عاما. وجدنا أن الاسمين يترددان كثيرا من مدير الرباط ومن الفريق صاحب مبادرة تدوير البلاستيك وغزله لمنتجات ذات فائدة واستخدام طويل.. ومن الفتيات العاملات. ثم عرفنا ورأينا السيدة ندى العراقية، وكان ما تقوم به مذهلا، فهي التي من تلقاء نفسها ثم بالتنسيق مع الفرق التطوعية ومع السيدة "أوسلا" ذهبت لهذه الأربطة، حتى وجدت أن تكرس كل جهدها لرباط واحد تنميه وتنشله من فقره المدقع وضياعه الإنساني إلى سطح النور وكرامة الوجود، ويكون علامة قياس لكل من سيأتي بعدها في كامل المنطقة، وعملت على برامج التعليم والتدريب الورشي والنظري للنساء وخصوصا الفتيات الصغيرات، وحققت كما قال السيد سمير مدير الرباط ما لم يحلم به أحد، لم نرَ السيدة أوسلا ولكن لمسنا تولع الفتيات بها وحبهن لها، وبرامجها المتقنة في التدريب والإنماء بجهد واسع، بل تقول السيدة ندى: "إن السيدة أوسلا تعمل أكثر مني وبكثير". كل طلب السيدتين أن تساهم معهن المتعلمات السعوديات في طبقات المجتمع المختلفة، فبالتالي هذه أرضهن.. ووعدتها قائلا: "سيدة ندى، لو علمت بناتُنا فسترين بإذن الله أكثر مما يرضيك". *** * والمهم: لكل شيء جغرافيا تتغير فيه كل الأشياء. إلا عمل الإنماء الإنساني لا يعرف الجغرافيا، إلا الجغرافيا الكبرى: الإنسانية.
مشاركة :