تبدو سيطرة - وتفوّق - سوق الرواية في العالم على عموم أسواق الأجناس الأدبية الأخرى واضحة، ولكن في السنوات الثلاث الأخيرة، بدأت أصوات عالمية كثيرة ترتفع، ومن بينها جائزة نوبل للآداب، حول أهمية الالتفات إلى القصة القصيرة، وهناك من يراهن على أن السنوات، وربما العقود المقبلة ستكون عقود فن القصة من دون منازع. أرى إن «صنعة الكتابة» تتجلى بأول أسطر من أي كتاب، وإذا كان الأمر كذلك فإن مجموعة «تُوستالا» للكاتب العراقي عبدالهادي سعدون («دار سنابل للكتاب») تمسك باهتمام القارئ وشغفه ودهشته منذ السطر الأول. فهي تنجح في شكل لافت في خلق التشابك الأجمل بين أرض الواقع وسماء الخيال، سائرة بدرب سردها الماكر، كاشفة عن قدرة مبدعة لدى الكاتب بوعيه الفني تجاه كل حرف يكتبه. وتنطوي المجموعة على شيء من متعة خاصة جداً تصاحب الأعمال الإبداعية الأندر، لحظة يتيقن القارئ أنه أمام كاتب مسلح بوعي حياتي عميق من جهة، ومتقن لأصول لعبة الكتابة وعلاقة النص بالقارئ من جهة ثانية. في القصة الأولى «بلد متنقل» يُحيل عبدالهادي سعدون، القارئ، من دون ذكر ذلك، إلى أحد أشهر قصائد الشاعر اليوناني الكبير «كفافيس» في قوله: «ليس هناك يا صديقي أرضٌ جديدة ولا بحرٌ جديد/ ستتبعك المدينة/ قدرك أنك ولدت هاهُنا». فهو يخترع حيلة إبداعية لينقل الأصوات والمشاهد والحيوات من مدينته بغداد لتحل في مدريد محل إقامته، حتى أن جواد سليم رمز الفن التشكيلي العراقي يحضر أمامه بهيئة رجل عابر، سائلاً عن قطعة صغيرة مفقودة في تمثال «نصب الحرية» الذي حلَّ محل «مبنى بلدية مدريد». وبهذه الطريقة تجسّد القصة معاناة ملايين اللاجئين العرب في شتى بقاع الأرض، في ملاحقة أوطانهم للحظة عيشهم، وإصرارها على أسر حيواتهم الحاضرة في جيوب حياتهم الماضية، وكأن ماضي الإنسان العربي يعتاش على حاضره، وفي ذلك مأزق قاتل للحياة، وللإنسان العربي. عبدالهادي سعدون، يكتب بطريقة لا تشبه إلا نفسها، فهو يخلط بين السيرة الذاتية والفانتازيا، وبحضور الواقع بوصفه الأرضية التي يتحرك عليها هو وسيرته وفانتازيته وحقيقة عيشه. في كل من قصة «بلد متنقل» و «نصيحة وتنشتاين» يبدو عبدالهادي مسكوناً بكتابة رواية لا تكتمل، وهو يبحث عن سببٍ يفسر تأخره عن الكتابة من جهة، ويبحث عن مخرج يهديه إلى الكتابة من جهة أخرى، وبذا يقول عبدالهادي مأزق الكتابة الذي يمرّ به كل كاتب. لكنه أثناء حديثه الممتع والشيق عن مأزقه هو أنما يكتب بمكرٍ حلوٍ قصصه. ولسان حاله يقول: ليس من وسيلة للإمساك بالكتابة إلا بالكتابة. وأن الفانتازيا والخيال أياً كان حضورهما في أي عمل أدبي، فلابدَّ أن يكون لهما صلة بالواقع، والواقع في قصة «نصيحة وتنشتاين» يتجلى في المكان «مدريد»، وفي حضور شخصيات حقيقية من أصدقاء الكاتب هم: محسن الرملي، وعلي بدر. على أن عبدالهادي سعدون يكتب بصيغة «ضمير المتكلم» وهي صيغة تخلق صلة حميمة بالقارئ، لكونها تضعه في دائرة صداقة الكاتب من جهة، وتأخذه من جهة ثانية إلى الوقوف متأرجحاً بين تصديق ما يقرأ، وبين الابتسام لخدعة الكتابة الجميلة. إن الملاحظة الأهم لقارئ المجموعة، هي تلك اللغة السلسة والماكرة التي يتلاعب بها عبدالهادي سعدون، فهو من الكتّاب القلائل جداً الذين يستطيعون أخذ القارئ إلى عوالمهم من دون استئذانٍ. بل إن قارئ المجموعة يشعر وكأنه مُنوّم مغناطيسياً لإكمال قراءة أي قصة. يكتب سعدون بلغة فيها من البساطة والحميمية ما يجعلك تشعر وكأنك جالس أمام حكّاء شعبي يستل قصصه الواحدة تلو الأخرى من خزين ذاكرته ويقصها كأبسط ما يكون. وبهذا فإن عبدالهادي يقدم ما يمكن تسميته بـ «كتابة الكتابة»، أو تكليف القارئ طواعية بكتابة القصة التي يقرأ، ولسان حاله يقول: وحده القارئ يبعث الحياة بين جنبات أي نص عبر القراءة، ومن دون القراءة لا وجود للنص. ومؤكد أن قصة «حكاية الرجل الذي قصَّ عليَّ حكاية يعتقد أنها تهمّني» تشكّل نموذجاً دالاً للطريقة الساحرة التي يكتب بها سعدون. إن تأملاً واعياً لروح قصص المجموعة، يظهر في شكل جلي لعبة القص على طريقة «ألف ليلة وليلة» فكل قصة تلد القصة التي تليها، وتبدأ من مكان لتجد نفسك في مكان آخر. وهذا ما يجعل من القراءة متعة وتسلية، ولا أظن أن هدفاً أسمى لروح الكتابة، يعدل قدرتها على تقديم متعة أو جعل القارئ يهتز بضحك قلما اهتز لمثله وهو يعايش نصاً أقرب ما يكون إلى «السخرية السوداء» كما في قصة «مأتم عراقي». كتبتُ أكثر من مرة أن قصص القاص السوري زكريا تامر، هي بصمته الأهم بأسلوبه ولغته، وأنها عصية على التقليد، والكلام عينه على نتاج القاص المغربي أحمد بوفور، لكني وأنا أقرأ قصص عبدالهادي سعدون أجدني أشير بوضوح إلى أن هذه القصص تحمل بصمة خاصة بصاحبها. تجمع بين كتابة السيرة الذاتية وكتابة الفنتازيا والواقعية. وأن ما يميّز عبدالهادي هو قدرته على أن يجعل كل قصة تلد تاليتها، و بلغة شاعرية فاتنة أقل ما يمكن أن يُقال عنها «السهل الممتنع»، وهذا التوصيف يشمل كل قصص المجموعة بلا استثناء. وأخيراً لابدَّ من القول أن كتابات عبدالهادي سعدون ومثلما تقدم بصمته الخاصة فإنها تشير صراحة الى عشقه لعالم الإرجنتيني بورخيس، وأظن أنه طالبٌ نجيب لمعلم عظيم.
مشاركة :