أحصيت ما لا يقلّ عن عشرة أساتذة ودكاترة ومهندسين، ليس على لائحة في قاعة استقبال في مؤسسة جامعية، أو في صرح أكاديمي كرّم أركانه بلوحة تذكارية لفتاً لأنظار زوّاره، وإنما في مقدمة حلقة من مسلسل تلفزيوني عربي. ويتكرّر الأمر في غير مسلسل وشريط سينمائي. أجزم أنها ظاهرة تمتد قدماً إلى ما ترسخ في ذاكرتي وترسّب فيها من أعمال السينما المصرية وعجائبها. ولا تشفّ الهندسة والدكترة والأستذة عن مشاركة معماريين وأطباء وعلماء في إنجاز المسلسلات والأفلام بعد اختصار ألقابهم بأحرفها الأولى، «د.» للدكتور، «م» للمهندس و»أ» للأستاذ، بما يوحي برفد الأعمال الفنية بمجموعة مستشارين أو لجنة خبراء وفنيين يُعتدّ بآرائهم في صدقية المشاهد ذات الصلة باختصاصاتهم وأصول تناولها وسبل تنفيذها. حصل ذلك في أعمال اقتضت حساسيتها الدينية، أو محتواها، استمزاج وجهات نظر مراجع معتمدة ومتفق عليها، فكانت تحوي مقدماتها تنويهاً بإحالة نصوصها على أهل الدراية والمصادر الموثوقة، كما جاء في فيلميْ الراحل مصطفى العقاد «الرسالة» و»عمر المختار» وسواهما من العناوين الإسلامية والتاريخية، علماً أن «الموثوق» من المصادر يتجنّب المثير للجدال وغضب الورثة ودعاوى القضاء وغير المستحب ذكره في أحوال السير الذاتية وموجاتها المتواصلة منذ مسلسل أم كلثوم وما تبعه من بيوغرافيا أسمهان وليلى مراد وتحية كاريوكا والملك فاروق وبلاطه. ولئن استُهل هذا المقال بالدكاترة والأساتذة والمهندسين، فالمقصود ليس عمل المستشارين مثلما ورد في السينما والتلفزيون، بل تزيين أسماء مصممي الديكور ومسجلي الصوت وكتّاب السيناريو وواضعي الموسيقى التصويرية بألقاب تساويهم بكبار الأكاديميين والجامعيين والجرّاحين من دون شعور بالحرج في حشو لقب واحد بصفات عدّة، كمهر الموسيقى التصويرية بتوقيع الأستاذ الدكتور فلان، أو مونتاج الصوت والميكساج بالمهندس الدكتور الأستاذ - م. د. أ. والبقية معلومة. وبعض الموسيقيين ممن استعاض عن تأليف لحن خاص بجمع مختارات من ألحان شاعت عالمياً، لم يتورع عن النفخ في دوره وتفخيم لقبه غير آبه بحفظ الاعتبار والحقوق أو كشف اسم منْ أمعن في استغلال موسيقاه واجترارها في الفيلم. ووصلت العدوى أيضاً إلى كتّاب السيناريو في التلفزيون، حيث نُوِّه باقتباس النصّ عن «قصة عالمية»، وفقاً لمقدمة مسلسل أو اثنين من معروضات الموسم الرمضاني المنصرم. لماذا لا يُستكمل المعروف بإزالة النقاب عن عنوان «القصة العالمية» ومؤلفها؟ يحيّرني تصرّف كاتب المسلسل العربي في قصص الآخرين على هواه، مفترضاً تنازل أصحابها عن حقوقهم مرضاة له. وللممثلين حصتهم الكبرى من المقدمات، تكتظ الشاشة بأسمائهم وألقابهم، يتنافسون في ما بينهم على احتكار البطولة، ويعكس الجنريك التسويات المبرمة جبراً لخواطر الممثلين ومراعاة لغيرتهم وتحسّسهم من بعضهم بعضاً. فمن لم يفز بالبطولة، تحول «ضيف شرف». ومن لم تتسع له الضيافة، نال شرف «الممثل القدير». ومن لم يعجبه لقب ولا صفة، كُرِّم بـ»إطلالة خاصّة». ومن ضاقت الدنيا بشهرتيْهما وخصومتيهْما، مُزِج إسماهما على الشاشة واختفيا عنها معاً كي «تضيع الطاسة» ويصعب على المشاهد تمييز أسبقية ظهور أحدهما على الآخر. كلّ ذلك يمكن فهمه وتقّبله. ما يعسر هضمه تألب العاملين كافة في الدوبلاج على إطاحة الأصول من التعريف بإسهاماتهم في تعريب المسلسلات التركية والمكسيكية والكورية، حيث تحتشد أسماؤهم ويحل كثير منها محل المساهمين الفعليين. يصبح أبطال المسلسل وفنيّوه ومنتجوه عرباً بلا استئذان. في مقدورهم التذرع بأن القصد من وراء ذلك، التنويه بالمشاركين في تنفيذ النسخة المدبلجة، لكن حججهم تحتاج إلى تخصيص حيّز بهؤلاء المشاركين منسوب إلى عملهم في النسخة المدبلجة بدل طمس آثار المخرج والمونتير ومصمم الصوت الأصليين وخلط الأسماء على الشاشة، بما يدفع إلى الظنّ أن نجوم الصوت هم أبطال المسلسل وممثلوه. في عالم آخر وأكثر رقّياً، يُعدّ الدوبلاج أحد آخر الأعمال نبلاً وتواضعاً وتوارياً في الظلّ وذوباناً في الأصل. جميع الأفلام والمسلسلات غير الناطقة الفرنسيّة، تعرض مدبلجة في الصالات السينمائية وقنوات التلفزيون العاملة في فرنسا. والحال نفسها في المملكة المتحدة وألمانيا واليابان والبرازيل. ما من فيلم يفصح عن منفذي نسخته المدبلجة. ربما شاع في فترة منصرمة، ولضرورات تسويقية محض، تعاقد استديوات هوليوود مع كبار النجوم على استخدام أصواتهم في إثراء أفلام الرسوم المتحركة بألسنة شخصياتها ومدّها بطاقة النطق وروح الدعابة، إلا أن حضور إدي مورفي وبروس ويليس وغلين كلوز وسواهم وراء الميكروفون لم يسرق مرّةً مقدمة الفيلم وملصقه وواجهة عرضه، ولولا الحملات الدعائية والبيانات الصحافية الصادرة عن شركات الإنتاج لما علم بوجودهم في لوائح المساهمين. عندنا، يغلب البروز ويختزل العمل في فيلم أو مسلسل بمقدمته (الجنريك) محيلاً الشاشة ساحة غزو الآخرين واستباحة أدوارهم. وفي إصرار مدبلجي الأفلام والمسلسلات على فعل ذلك لا ينقصهم سوى تقليد الطبيب الحريص على إبراز اسمه الثلاثي في لافتة عيادته، إذ أن الكمال في الوجاهة يعود بالفضل إلى الأب والعائلة تباعاً. عن سابق تصميم، يخلط القّيمون على إنتاج الأعمال المرئية ودبلجتها بين الفن والوجاهة. يحسبون أن في اجتياح الشاشة بأسمائهم ضرب وجاهة، يضربون بكل اعتبار عرض الحائط ويتناسون أن في الضرب ظالماً ومظلوماً.
مشاركة :