يمثّل لطفي زيتون القيادي في حركة النهضة التونسية صوتا فريدا ومتمايزا حيال الخطاب العام للحركة، والذي تسعى في بعض الأحيان إلى التسويق له من بوابة التنوع الموجود داخلها والمفقود خارجها. اصطبغت مقولات زيتون منذ 2012، بعلامات التفرّد والتمايز عن الصوت صاحب الأغلبية سواء في مرحلة الترويكا السابقة أو في مجلس شورى حركة النهضة، وعلى مدى سنوات قليلة استحال الرجل من الناطق باسم الحركة إلى الناطق باسم “الضمير الأعلى للدولة المدنية في النهضة”، ومن الصوت المعبّر على الخطّ الغالب إلى وخزة الضمير المدنيّ الأقلياتيّ المغلوب. بات زيتون رجل الملفات الحارقة والأقوال المحظورة في مدوّنة الجماعة، فهو الذي يصرّح بأنه يفكر من خارج “المنظومة” وبمنأى عن عناوين الإسلام السياسي وعن مرجعياته، وهو الذي يدعو إلى الإقدام على الخطوة الفكرية الكبرى في العقل الإسلامي بفصل “المدنية” عن “الدين” وتحمل التكاليف الرمزية لهذه الحتمية المعرفية. ينظر إليه معارضو النهضة بالكثير من الارتياب المختلط بالإعجاب، فهو نصف عقل راشد الغنوشي ونصف لسانه أيضا، فيما يراه الكثير من شورى الحركة “شخصية هجينة عجزت عن التوفيق بين مقولات الإسلام والديمقراطية، وضلت طريقها بين تضاريس المدنية والدين، تشدها مدونة الجماعة مرة، وتردها مواثيق حقوق الإنسان مرات”. وبين الطريقين والموقفين، تسليم بأنّ لطفي زيتون يتحدث بصوت تفكري ويفكر بصوت عال، ويحمل غصن زيتون تحتاجه تونس بعيدا عن منطق الخنادق والبنادق. على مدى يومين على الأقل، شغل زيتون الصحافة التونسية، مقدما خطابا تبشيريا بتدشين حقبة ما بعد الإسلام السياسي لدى حركة النهضة الإسلامية. وعوضا عن المساءلة الفكرية والسياسية العميقة لحقيقة التوجه ومصداقيته، باتت الاستفسارات المهيمنة متمركزة حول الوزن الاعتباري والسياسي العددي لتيار زيتون صلب حركة النهضة وعن إمكانيات اعتناق القيادات والقواعد لأفكاره، إما بقوة العدد أو بمقومات العدة الفكرية وإما بكليهما معا. وفي لحظة صارت الرهانات السياسية والثقافية لجزء معتبر من الرأي العام منصبة على تغليب هذا الصوت، إعلاميا وسياسيا ولوجستيا، إما لغرض تأمين الطريق السالك لمشروع المساواة في الميراث، وإما للحيلولة دون تغوّل حركة النهضة بصقورها وكواسرها في باردو وقرطاج والقصبة عقب الانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة. ولأنّ جزءا من الطبقة السياسية والثقافية في البلاد مسكونة بمقولة “الاستثناء التونسي”، فإنّ توجّها فكريا بإمكانية “علمنة” حركة إسلامية في دولة غير علمانية، بات يراود البعض، بل إنّ نماذج من اليمين الديني في شكله الألماني والهولندي والبلجيكي، حيث يستحيل اليمين الديني مجسدا لمواقف أخلاقية دينية لا تتناقض مع العلمانية، على غرار مناقشة الإجهاض وزواج المثليّين والجنس الثالث، لم تغب عن العقل السياسي المتابع لخطاب لطفي زيتون، دون طرح سؤال الانطلاق، هل ثمة دولة علمانية مدنية تونسية من الأساس حتى تناقش مباحث اليمين المحافظ، وهل أن ما عجزت عن تحقيقه الدولة التونسية من علمنة النهضة بمقدور شخصية مهما كانت قوتها الرمزية وأهلية حجتها وحسن نيتها أن تؤمنه داخل الحركة؟ لن نُصادر حق لطفي زيتون في القيام بمراجعات نقدية عميقة، لمسلكية الحكم إبان الترويكا أو لأداء النهضة في ملفات أمنية خطيرة أو في مستوى تطور خطابه حيال مدنية الدولة، خاصة وأنّه قدّم مضامين حقوقية انتكس دونها الكثير من الحداثيين، ولكن دون الوهم أو إيهام الرأي العام بأن هذه التوجهات هي مقاربات تنظيمية وبنيوية عميقة سواء داخل قواعد الحركة أو مجلس الشورى. ذلك أنّ تمثّل النهضة لفكرة المدنية ومقاربة التمدن، في تلازمية عضوية مع الدين، وكلّ دفع رمزي نحو الطابع المدني الصرف هو تخلص طوعي لخزان استراتيجي ولهوية سياسية للحركة يبدو أنها ليست في طور مجرّد التفكير فيه. في المقابل، ينتصب صمت الحركة على خطاب زيتون داخلها، كمؤشر سياسي مهم يستوجب التحليل والتفسير. هنا، تندرج وظيفية خطاب زيتون كجزء من التنوع السياسي الذي تريد النهضة أن تروّج له كحركة تقوم فعليا على “التنوع صلب الوحدة” و”الوحدة صلب التنوع″، وإن كان الاختلاف قد أفضى لدى بعض الأطراف السياسية إلى الانشقاق فإن ذلك يزيدها انسجاما وتدافعا. وهي بهذه الصورة، تبصم التوجّهات الكلاسيكية للغنوشي بطابع الاعتدال وعدم التفريط، فأن يكون خطاب راشد الغنوشي متوسطا لخطاب زيتون من جهة، وخطاب الشيخين الصادق شورو والحبيب اللوز من جهة ثانية، دليل بأن الحركة تستثمر في كل شيء حتى في أصوات الهامش. والحقيقة أن الحركات الإسلامية استفادت من الأصوات الثائرة ضدها، حقيقة أو تمويها، أكثر من الأصوات المتماهية معها، فالتجربة المصرية ما بين 2011 و2013 القائمة على تحرير المبادرة من خلال احتواء المشهد السياسي، وبالتالي تصيير اليمين يمينا مقارنة بالإخوان واليسار يسارا اعتمادا على موقع الإخوان، تؤشر إلى أن الإسلام السياسي في توجهاته الكلاسيكية يلعب على أكثر من حبل ويرتدي أكثر من وجه. كما أن تجربة أبوعلاء ماضي مع حزبه الوسط، وعبدالمنعم أبوالفتوح مع حزب مصر القوية، لا تزال ماثلة بقوة، لا باعتبارهما قوة نقد صلب تيار الإسلام السياسي ولكن باعتبارهما الأجنحة الإخوانية الموازية للجماعة، والتي استفادت منها الجماعة بالكثير من الدهاء السياسي سواء في مستوى حشد القواعد أو في مستوى إعادة تأثيث المشهد السياسي المصري. بعيدا عن منطق المؤامرة وتوزيع الأدوار بين الحركة وأبنائها الضالين، وبمنأى أيضا عن خطاب “التقية” الذي قد يتهم به القيادي لطفي زيتون، فإن المشهد السياسي التونسي، وخاصة في الانتخابات الرئاسية القادمة، مقبل على تفريعات جديدة وعلى ولادات سياسية من رحم حركة النهضة (بالإمكان الحديث عن مشروع حمادي الجبالي أو لطفي زيتون)، لن تشق الحركة ولن تعارضها أيضا، بقدر ما قد تعارض المعارضة المتناقضة مع النهضة وتزيد من حضورها الموازي.
مشاركة :