الفجور في الخصومة والكذب أبرز علامات المنافقين

  • 2/15/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

تؤكد تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف على معاملة الناس بالحسنى، والعدل والإنصاف، والبعد عن الظلم والبغي والاعتداء. وتنهى الشريعة الإسلامية عن الفجور في الخصومة، وجعلتها علامة من علامات النفاق الخالص، لأنها تؤدي إلى الكثير من المشكلات الاجتماعية.. ومع تطور وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي وانتشارها برز نوع آخر من الفجور في الخصومة حينما استغلت تلك المنابر وخرجت عن مسارها الإيجابي إلى السلبي يسيء إلى الفرد والمجتمع. «الجزيرة» ناقشت تلك القضية القديمة المتجددة (الفجور في الخصومة) الذي تربطه علاقة تلازم مع الكذب، والكذب طريق إلى الفجور.. فماذا قال المتخصصون في العلوم الشرعية عن ذلك؟!: ثلث المعاملات يؤكد الشيخ الدكتور سعود بن إبراهيم الشريم إمام وخطيب المسجد الحرام أن الشريعة الغراء جاءت ذامةً للخصومة فاضَّةً للنزاع محذرةً من التجاوز فيهما والخروج عن الإطار المشروع لهما؛ وهو طلب الحق؛ لتجعل مَنْ تجاوز ذلكم ممن التاث بسمة من سمات المنافقين؛ وهي الفجور في الخصومة الذي هو الميل وتجاوز الحد والحق، وواقع الناس؛ إما عبادات أو معاملات، ثم إن المعاملات؛ إما أن تكون نيةً أو قولاً أو عملاً، ومن تجاوز الحد في هذه الأمور الثلاثة أو أخل بها ففيه من النفاق العملي بقدر الذي حصَّله منها، وجماع ذلكم هو قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (آيةُ المنافِقِ ثلاث: إذا حدَّثَ كَذَب، وإذَا وعَدَ أخْلَف، وإذا اؤتمِنَ خَان) رواه البخاري ومسلم.. وفي رواية -وهي التي تعنينا هنا-: «وإذَا خَاصَمَ فَجَر». فالفجور في الخصومة هو ثلث المعاملات؛ لأن القول يقابله الكذب والفجور في الخصومة، والنية يقابلها إخلاف الوعد، والعمل يقابله خيانة الأمانة، والفاجر في الخصومة يعلم أن الحق ليس معه فيجادل بالباطل؛ فيقع فيما نهى عنه الله -جل وعلا- بقوله: ولاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188]. والفاجر في الخصومة يسبق لسانه عقله وطيشه حلمه وظلمه عدله، لسانه بذيء وقلبه دنيء، يتلذذ بالتهم والتطاول والخروج عن المقصود؟.. ويزيد على الحق مائة كذبة، وترونه كالذباب لا يقع إلا على المساوئ، ينظر بعين عداوة لو أنها عين الرضا لاستحسن ما استقبح، لا يعد محاسن الناس إلا ذنوباً، والفاجر في الخصومة لا أمان له ولا ستر لديه، فيه طبع اللئام؛ فإن اختلفت معه في شيءٍ حقير كشف أسرارك وهتك أستارك وأظهر الماضي والحاضر، ولما كان النفاق لؤماً صار الفجور في الخصومة ثلث هذا اللؤم؛ فيجمع دمامة طبع ولؤم لسان، وكذلك اللؤم تتبعه الدمامة. فري الأعراض ويضيف الشريم قائلاً: ليس العيب في مجرد الخصومة؛ إذ هي واقعٌ لا مناص منه في النفوس والعقول والأموال والأعراض والدين؛ إذ من ذا الذي سيرضى عنه الناس كلهم؟.. ومن ذا الذي إذا رضي عنه كرام الناس لم يغضب عليه لئامهم؟. والعجب كل العجب أن بعض الناس يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والزنا والظلم والسرقة وغير ذلكم ويصعب عليه التحفظ من لسانه، وكم نرى من مترفع عن تلكم الفواحش والآثام ولسانه يفري في الأعراض ولا يبالي ما يقول؛ فيبغي على خصمه، والله -جل وعلا- يقول: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «وأنت إذا تأملت ما يقع من الاختلاف بين هذه الأمة -علمائها وعبادها وأمرائها ورؤسائها- وجدت أكثره من هذا الضرب الذي هو البغي بتأويل أو بغير تأويل، والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض لا تحل إلا بإذن الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-». إن الفاجر في الخصومة ليس لديه حدٌّ ولا ضابط فيها، غايته تبرر وسيلته؛ سواء أكان هذا الفاجر في الخصومة في باب الحقوق أو العقائد أو الأخلاق، ومن نظر إلى واقع المسلمين اليوم وما يكون فيها من التراشق المقروء والمرئي والمسموع لَيجد لذلك أشكالاً وألواناً ويسمع رجع صدى لهذه المعرة؛ لتصبح ثقافة طالب العلم أو الصحفي أو الإعلامي أن الخصومة تبيح التطاول ليصل إلى النوايا ولينشر المستور، ويصبح الحاكم الوحيد على مثل هذه القلوب المريضة هو عين الرضا التي تستر القبيح أو عين العداوة التي تستقبح الإحسان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11]. الوقوع في الكذب ويؤكد الشريم أن أبغض الرجال إلى الله الألدُّ الخصم كما صح بذلكم الخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين وغيرهما، والألد هو: الأعوج في الخصومة بكذبه وزوره وميله عن الحق، ومن هذه حاله فقد شابه من أرادهم الله بقوله: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً [مريم:97]؛ أيّ مجادلون بالباطل ومائلون عن الحق في الجدال والخصومة. وقد ذكر بعض السلف أن من أكثر في المخاصمة وقع في الكذب كثيراً؛ ولأجل هذا؛ قال عمر بن عبدالعزيز -رحمه الله تعالى-: (مَنْ جعلَ دينَهُ عُرضةً للخُصومات أسْرعَ التَّنقُّل)؛ أيّ لم يستقر على منهج معيّن ولا مبدأ واضح. قال الحافظ بن رجب -رحمه الله-: (إذا كان الرجل ذا قدرةٍ عند الخصومة -سواء كانت خصومة في الدين أو في الدنيا على أن ينتصر للباطل ويخيل للسامع أنه حق ويوهن الحق ويخرجه في صورة الباطل-، كان ذلك من أقبح المحرمات وأخبث خصال النفاق).. وفي سنن أبي داود: عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَنْ خَاصَمَ في باطِلٍ وهو يعلمُه لم يزلْ في سخَطِ اللهِ حتَّى ينْزِع)، ولذا فإن اللبيب العاقل ليس هو الذي يميز بين الخير والشر في الخصومة فحسب؛ لأن كثيراً من الناس يملك هذا التمييز، ولكن اللبيب حقاً هو من يميز في مثل هذه الأمور خيرَ الخيرين وشر الشرين، وما سقط من سقط في الخصومات الدينية والدنيوية العقدية والفكرية الثقافية والإعلامية إلا بسبب الجهل بهذا الأمر العظيم، ولقد أحسن من قال: إنَّ اللَّبِيبَ إذَا بَدَا لهُ مِنْ جسْمِه مرضَانِ مختلفَانِ دَاوَى الأخْطَرَا صور الفجور ويشير د. علي بن يحيى الحدادي رئيس قسم السنة النبوية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية إلى أن من صفات المنافق أنه «إذا خاصم فجر»، كما في الصحيحين. والفجور في الخصومة خصلة قبيحة حتى قال بعضهم: «ما رأيت شيئاً أذهب للدين ولا أنقص للمروءة، ولا أضيع للذة، ولا أشغل للقلب من الخصومة»اهـ. والفجور متولد عن الكذب وهو سبيل إلى النار قال صلى الله عليه وسلم: (وَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ» متفق عليه. فلا ينبغي للمسلم أن يدخل في الخصومة إلا مضطراً، وإذا دخل فيها فليتحر الصدق والعدل والعفة والابتهال إلى الله أن يلزمه كلمة الحق في الغضب والرضا، كما كان يدعو بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-، والحذر أن يجرمه شنآن خصمه على ظلمه في ماله أو عرضه أو نفسه قال تعالى: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى (8) سورة المائدة. وللفجور في الخصومة صور متقاربة منها: الكذب على الخصم، وادعاء ما ليس له، وإنكار الذي عليه، واستعمال الأيمان الكاذبة، وإظهار الباطل في صورة الحق بقوة حجته وفصاحتها، وشتم الخصم ورميه بالأوصاف القبيحة، والكبر وعدم الانقياد للحق. انتهاك الحدود ويوضح الشيخ عبدالله بن محمد اللحيدان الأمين العام للجنة إصلاح ذات البين بإمارة المنطقة الشرقية إن التخاصم بين الخلق وارد لتباين الصفات والأمزجة والرغبات وتعارضها، والنفس البشرية قد تطغى عليها المشاحة في حظوظ النفس الدنيوية، فتنشأ المشاحنة مع من يصادم تحقق ذلك، والصادقون مع أنفسهم وغيرهم يكون الميزان لديهم وجود الحق، فلا تنشأ خصومتهم للغير إلا بمخالفة الغير للحق الذي لديهم أو محاولة الاستيلاء على حقوقهم، فمتى ما تبين أن الحق ليس لهم ولا معهم كفوا عن الخصومة ولم يتجاوزوها إذ لو فعلوا ذلك لوقعوا بالمحذور الذي ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه من صفات المنافقين الذي يظهرون الانصياع للحق ويبطنون خلافه، لتتضح معالم المخالفة بأمور منها أنهم إذ خاصموا فجروا، أيّ احتالوا لوصولهم لحقوق غيرهم بأمور غير مشروعة انتصاراً لمصالحهم وأهوائهم، في الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)، وقد يلحظ توفر هذا النوع وبروز انتشاره فيما يعايشه المرء أو يواجه من البعض على قنوات التواصل الاجتماعي، فيكون الخصم المقابل فاجراً لدوداً في الخصومة، لا يقف عند حدود الحق بل ينتهك حدود ذلك فيقع ليس في بغض الخلق له، بل الأمر أعظم لبغض الله له كما ورد في صحيح الجامع قال نبينا -صلى الله عليه وسلم-: (إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم) وللأسف، ذلك يشاهد أحياناً ممن يستند في أقواله إلى أدلة شرعية محاولاً إقناع الطرف الآخر بوجهة نظره، فإذا ما تبين له أن استخدامه الأدلة في غير محله لقصور في فهمه وإدراكه أو لأيّ سبب آخر وجدته يركب مركب الفجور في الخصومة حتى يكون كمن قال الله فيهم: وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى * مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ؛ ليس خصماً فقط، بل شديد الجدال في الخصومة بغير حق كما قال المفسرون.. فعلينا أن ندرك محاسن الرفق في الخصومة وأن نعرض الحق الذي لدينا عرضاً ملؤه الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن وألا نجعل من الخصومة سبيلاً إلى العداوة والبغضاء وحب إلحاق الأذى بالخصم بل لنكن ممن وصفهم ربهم بقوله: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ (39) سورة الشورى.. أي ينتصرون ممن بغى عليهم من غير أن يعتدوا ولذلك قال بعدها: وَجَزَاء سَيِّئةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} ثم رغب بما هو أنفع وأنجع فقال :{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ .. فهلم جميعاً إلى نبذ الفجور في الخصومة وتبني اليسر فيها وعدم مجاوزة الحق. حق الاختلاف ويرى الدكتور عادل بن محمد العُمري أستاذ الدراسات الإسلامية المساعد بجامعة القصيم أن لكل أحدٍ حقُّ الاختلاف وحرية الاختيار، من حق كل أحد أن يعترض تجاه فكرةٍ لا تعجبُه أو منهجٍ يرى أن فيه ثمة خللاً في أيّ مجال أوفي أيّ مسألةٍ يسوغُ فيها الاختلاف وتندرج ضمن حدود الرأي والاجتهاد، كل ذلك لا إشكال فيه، ما هو المشكل إذن وأين يكون الخلل؟.. المشكل أن يتعالى المختلف على من يختلفُ معه فيكذبُ عليه، أو يدَّعي عليه زوراً، أو يحلفُ بالله عليه وهو كاذب، أو يشتم أو يقلل من الخصم بلونه أو عرقه أو مذهبه أو دينه لأجنداتٍ شخصية، أو يغالط الحقائق، أو أن يختصم ويدَّعي علماً دون بحثٍ وتقصٍّ، أو كما تفعله الجماعات المتطرفة من التعسف في الاستدلال واقتطاع النصوص واجتزائها لأجنداتها السلطوية ونشر الفوضى السياسية؛ كل ذلك من الفجور سواءً كان ذلك في أمر الدين أم الدنيا وفي الحديث: (إن أبغضَ الرجال إلى الله الألدُّ الخصم). شخصنة النقاش ويقول الدكتور سعيد بن مرعي السرحاني الأستاذ المساعد بكلية الشريعة بجامعة الملك خالد بأبها إن الاختلاف والتنازع في الأفكار سنة ماضية، وتباين المواقف شيء طبيعي لا يستغرب؛ إلا أن ما يؤلم كل متابع لجدليات الساحة الثقافية، وتداعيات الردود التي تزخر بها وسائل الإعلام الجديد والتواصل الاجتماعي؛ ليرى بوضوح من الممارسات الفجة، والتصرفات السلبية التي لا يكاد يخلو منها نقاش فكري أو سجال -غير أدبي- والتي أهم مظاهرها الخروج بالنقاش عن موضوعه إلى شخصنته ثم الانتقال إلى الحديث عن مثالب الخصم ومساوئه حتى النزول إلى حضيض الألفاظ المقذعة والسباب والشتائم إلى فجور بعض المتخاصمين في خصومته؛ فتجد الألفاظ السوقية والتعيير بما لا يعير به من طائفة أو عرق أو بلد. إن أخلاقيات الاختلاف وآداب التعامل يجب أن تشاع في وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي.

مشاركة :