إعداد: محمد هاني عطوي تكمن في أذهاننا فكرة تتمثل في أن المرض معركة غير متكافئة بين الميكروبات ومضيفها. ولكي نمنع العدوى، نسعى منذ أبحاث لويس باستير لإيجاد وسيلة لتحييد أكبر عدد من الأعداء المحتملين. ولكن ماذا لو كنا مخطئين؟في هذه القضية سيتم تسليط الضوء على الدفاعات المتطورة الموجودة داخل أجسامنا والتي يتم تنظيمها بواسطة الدماغ، سواء لمواجهة الإجهاد أو العوامل المعدية. في الحالة الأولى، تكمن المسألة في إطلاق سلسلة من الآليات التي تمكننا من مواجهة العدوان.تترجم هذه الآليات على شكل سلوكيات مناسبة كالهرب والقتال، وتثبيط العمل. وترتبط بمظاهر فسيولوجية كتسارع النبض، وارتفاع ضغط الدم الشرياني، وتمدد حدقة العين أو توسع الأوعية الطرفية. هذه الطريقة التي يتم فيها تنظيم السلوك خلال هذه الحالة من الإجهاد وصفت في العام 1936 من قبل الكندي هانز سيلي. الإغراءات المكثفة ومن بين العناصر المدرجة في تفسيرها، أن التعرض المتكرر لحالة معينة يصل بنا في النهاية إلى حالة من التعود على الموقف أو الحدث ومن هنا فإن «الإجهاد» المتكرر ينتهي بالتلاشي إلا أن النوع الحاد، أو تكرار الإغراءات المكثفة، يمكن أن يتجاوز قدرتنا على الاستجابة للحدث المعني. ففي مجال الرياضة مثلاً، يؤدي هذا الأمر إلى فقدان البطل وسائله، ويبدأ في حساب خطواته، والشعور «بالإحباط» ثم الهزيمة أمام الخصم. ومن إحدى ردود الفعل العفوية التي يمكن اعتمادها، حماية نفسه من المواقف المقلقة وهو توجه يصبح طبيعياً بعد فترة.وهكذا، لم نعد نندهش اليوم عندما نرى أن أعظم فرق كرة القدم في العالم تعيش منعزلة عن العالم خلال المنافسات الرئيسية. وللهروب من الشعور «بالضغط» يعلن اللاعبون أثناء المقابلات أنهم لا يريدون الخوض في أي مناقشات حتى لا يتأثرون بالمنافسة. وعلى العكس، يستعد الآخرون بوضع أنفسهم في ظروف أسوأ من أولئك الذين يعيشون جو المنافسة.فعلى سبيل المثال يشارك راكبو الدراجات من الفريق الدانمركي كل عام في دورة كوماندوز وكذلك الحال بالنسبة لفريق التزلج الفرنسي للرجال الذين يقضون أسبوعاً في (مركز التدريب الوطني) يشاركون في تدريبات عالية التوتر مع صفوف النخبة.ومن هنا يظهر لنا اتجاهان متعارضان: فإما أن نعمل على الاستئصال الأقصى للحالات الضعيفة، أو على النقيض نلجأ إلى وضعية السياق المتوقع بل الأصعب مما نتوقعه وكأننا نحضر أنفسنا بنوع من «تطعيم» ما قبل الإجهاد. وهنا يأتي السؤال التالي: هل سنكون أكثر سعادة وأقوى في عالم خال من التوتر، أم يجب أن نسعى إلى مواجهة التوتر لفهمه بشكل أفضل؟ الحماية القصوى يرى بعض الباحثين أن غياب الحافز يخفض إلى حد أدنى وغير عادي من درجة تحمل الشخص لأي شكل من أشكال العدوانية. ولذا فإن الرغبة في حماية الشخص نفسه من حالات الإجهاد يمكن أن تؤدي وفقاً لهم، إلى حالة متناقضة، تتمثل في زيادة التعرض للمشاعر السلبية.هذا المنطق من الحماية القصوى يسود أيضاً في مجال الحصانة أو المناعة. ولو أقمنا علاقة موازية مع العواطف «المجهدة»، سنجد أن الميكروبات تمثل شكلاً آخر من أشكال العدوانية حيث يتم إطلاق سلسلة من الآليات المكيَّفة: كالاحمرار والشعور بالدفء والتورم والشعور بالألم، يدركها الدماغ بنفس الطريقة التي يدرك بها حالة تسارع النبض التي نلحظها في المرحلة الحادة من الإجهاد. وفي كلتا الحالتين نجد أنفسنا في حالة تأهب حيوي. الميكروبات حالة مألوفة في عام 2006، أصبح وجود الميكروبات في بيئتنا حقيقة مكتسبة ومقبولة من قبل الجميع حتى بالنسبة لأطفال الروضة الذين يعتبرون هذا المفهوم شيئاً مألوفاً. ومع ذلك فحتى قبل عام 1870 وأبحاث لويس باستور (1822-1895)، كان وجود الميكروبات شيئاً مجهولاً للجميع. ولذا فإن فكرة «الميكروب»، على نطاق تاريخ البشرية، هي أمر معاصر تقريباً، حيث اكتشف لويس باستور العديد منها، وخاصة العنقوديات والمكورات وقضى معظم وقته في الكفاح لإثبات أن ثمة ميكروبات مختلفة مسؤولة عن انتشار العدوى كما دافع عن فكرة أنه من الضروري اللجوء إلى التعقيم. ومصطلح التعقيم يعكس في الواقع الرغبة في القضاء على أي عامل بكتيري في أجسامنا.لكن هذا الاستئصال الكلي نُظر إليه بسرعة على أنه مستحيل علماً بأن باستور تخيَّل تخفيفه عن طريق اختراع اللقاحات. الجدير بالذكر أن اللقاح يتمثل في إدخال الميكروبات المخففة فاعليتها إلى الجسم لإعطائه الوقت لتطوير الدفاعات المثلى ومن هنا فإن عمل باستور كان له تأثير دائم على الفكر الطبي. فحتى اليوم، نجد أن ظهور عدوى ما، وخاصة ضمن الكادر الطبي (المستشفى)، يعتبر خطأ كبيراً من الناحية المهنية.لأن الخوف من الأمراض التي يصاب بها المرء في المستشفى أدى إلى اتخاذ المزيد من إجراءات النظافة الشديدة للغاية لا سيما فيما يتعلق بالنظافة الغذائية. أفكار بديلة الحقيقة أن ثمة أفكاراً بديلة في العالم الطبي أثيرت ضد عقيدة التعقيم. وفي هذا الإطار، ثمة نظرة أوسع وأشمل بخصوص مسألة العدوى. فكما هي الحال في حالة الإجهاد تبدو العدوى على أنها معركة بين المعتدي والمدافع بمعنى أن العدوى تحدث فقط عندما تهيمن قوة المعتدي على المدافع خاصة أن أي حدث مرهق لا يعاش بنفس الطريقة من قبل الجميع، فنحن معرضون للعدوى بطرق مختلفة أيضاً. وقد ظهرت حول ذلك حقائق مذهلة عبر القرون.وعندما يفكر المرء في الأوبئة المدمرة، مثل الطاعون الذي ضرب عدة مدن في العالم كمدينة مرسيليا في القرن الثامن عشر، فإننا نتذكر آلاف أو ملايين الضحايا الذين راحوا ضحية هذا الوباء. ومع ذلك، فنحن ننسى أن بعض الرحالة قد عبروا أوروبا وخاصة عبر المدن المصابة بالعدوى، لكنهم لم يصابوا بالمرض. والأمر الأقرب إلينا يتمثل في موجات الإنفلونزا التي تضرب بين الحين والآخر العديد من الدول والتي يذهب ضحيتها مئات الأرواح وهو الأمر الذي يبرر حملات التطعيم الروتينية لكبار السن. ومع ذلك، نجد إلى جانب هؤلاء أشخاصاً يبقون في وضعية الإنذار لعدة سنوات دون أن يكون لديهم أي فكرة عن هبات الحمى الناتجة عن الأنفلونزا.أثارت هذه الملاحظات المحيرة والمهمة فضول بعض العاملين في مجال الصحة ما دفعهم إلى تبني فلسفة مختلفة جذرياً. هذه الفلسفة الجديدة تضع استجابة الشخص (أي دفاعاته) في قلب المشكلة. وربما تلخص جملة واحدة قالها لويس باستور في نهاية حياته فلسفة الوقاية من العدوى: «الميكروب ليس شيئاً، بل مكان وجوده هو كل شيء».ولا شك في أن المهووسين، ممن يتبنون هذا النهج وهم كثر في العالم العلمي يتجسدون في شخص لويس باستور نفسه الذي جعل الكثيرين يطرحون تساؤلات كثيرة حول بعض أعماله التي أنجزها طوال أربعين عاماً لأن مثل هذا التحول يستحق الدراسة عن كثب. ضوضاء كبيرة منذ أربعين عاماً مضت، يشعر أخصائيو الإحصاء بالقلق إزاء الزيادة في حالات الأمراض الناتجة عن «ضعف الجهاز المناعي». ويتحدث الأطباء فعلاً عن أمراض يقاومها نظام المناعة لدينا من خلال إطلاق ردود فعل دفاعية على الرغم من عدم وجود أي عدوان ميكروبي. إنها الحساسية المتمثلة في مرض كرون أو ما شابهه من أمراض المناعة الذاتية. أمام هذه الأمراض، يهاجم نظامنا المناعي بدفاعاته عن طريق الخطأ خلاياه «الذاتية» كما لو كانت أجسامًا غريبة أو بكتيريا أو فيروسات أو فطريات. وقد تركت هذه الحوادث المتزايدة العالم الطبي في حيرة كبيرة. ولذا فإن التفسيرات الجديدة تشكك في كثير من المفاهيم الخاطئة حول مسألة الحصانة وعمليات التعقيم المفرطة.
مشاركة :