لو كُتِبَت نصوص «عن الذاكرة والموت» في سوريا ستينيات أو سبعينيات القرن العشرين لقيل إنها كتابة «هيستيرية»، «لا تاريخية» أو «انهزامية» إلى غير ذلك من «التصنيفات» التي كانت منتشرة في تلك المرحلة! ولكنها -مع الأسف-، كما يقول أحد النقاد لم تكتمل في صيغتها النهائية ولم تصدر بهيئتها الحاليّة إلا بعد رحيل كاتبها سعد الله ونوس بعد صراع طويل مع المرض، وبعد الانهيارات الدراماتيكية التي بدأت تشهدها المنطقة العربية حيث ظهرت شروط ثقافية مغايرة لمرحلة الستينيات. التي عاشها وأبدع فيها سعد الله ونوس في نصوص كانت مغموسة بآلامه وأوجاعه، كان يكتب بأوجاع وهموم أمته، وكتب تلك النصوص بأوجاع المرض الذي عانى منه. انساق وراء الكتابة السرديّة في عالم مشحون بالدهشة والضياع، نكتب «عن الذاكرة والموت» في تسعة نصوص سردية منقسمة إلى قسمين: القسم الأوّل: نصوص قديمة: الورم، الهجرة من الغابة، المشاجرة، هكذا وجدت الهررة، عينان، الأجداد، والقسم الثاني: نصوص جديدة: بلاد أضيق من الحب، ذاكرة النبوءات، رحلة في مجاهل موت عابر»، ويشكل الموت، في نصوصه تلك قديمها وجديدها، قاسما مشتركا باعتباره موضوعاً للكتابة، ومنطلقاً للحكي، ومبدأ مختلفاً للسرد، وبطلاً روائياً، وأُفقاً للرؤية. وبهذا الاختيار الصعب تكون الكتابة السردية عند ونوس على حد تعبير أحد الباحثين قد ألزمت نفسها بالخروج من المدارات الإنسانية، في الحياة العادية، وممارسة التخييل ضمن الحدود الفاصلة بين الدنيوي وما وراء الغيبيات، وهو الرهان الذي قاده إلى خوض مغامرة الكتابة ضمن مفهوم معيَّن لجمالية الإبداع، يتخذ من المرضِ وقبحِّ المعاناة والألم منطلقا للبوح والكتابة. إن قضايا نصوص ونوس النوعية التي تولجنا في مآزقها تتمثَّل في أسئلة شائكة: كيف نجعل الأدب ممتعاً وهو يقترب بنا من الموت ويمعن في وصف الألم؟ كيف نضفي معنى وجمالاً على الألم؟ أسئلة كثيرة تقودنا مع كتاب ذاكرة موت سعد الله ونوس إلى أن نتأمُّل مع قارئ إبداعاته الكتابية جملة من الثنائيات ينسجها الموت في مختلف علائقه. شبكة تغطِّي بمفرداتها النسيج السردي بكثافة دلالية وإيحائية، يتحوّل بمقتضاها موضوع الموت إلى طقس جنائزي مشبع برائحة الموت، وبريق الحياة الزائف. كما تؤكد إحدى الدراسات أن «ونوس» قد وضعنا منذ مسرحياته يضاف لها سردياته الجديدة أمام تشخيصٍ أدبي لموضوع الموت المنتظر. الموت بطبيعته مُفرَغٍ من أي تسطيح أو معالجة خارجية تتستَّر بالطابع الاجتماعي أو التاريخي. فالموت لا يتحقَّق نصياً كحدث خارجي، أي أن قيمته لا تُستمدُّ من مضاعفات دلالاته الاجتماعية أو التاريخية وانعكاساتها على شخوص السرد وإذا كانت الكتابة هي الوسيلة الوحيدة المتاحة لمواجهة الموت، فإن سعد الله ونوس لم يتردَّد في اتخاذها كسلاح رمزي لمنازلة الموت، فقد كان يصارع بآلامه ومرضه شبح الموت الذي كان ينتظره ولا يخاف منه، بل نجده منتشيا بنصر كلمات إبداعه عليه، ليؤكد قوة ذاكرة موته. لي عودة للحديث عن ورم سعد الله ونوس.
مشاركة :