أفصحت أكثر من دولة عربية في الآونة الأخيرة عن موقفها من الخطط التركية لإقامة ما تسميها أنقرة «المنطقة الآمنة» فوق أراضي الشمال السوري المحاذي للحدود مع تركيا بعمق يصل إلى ثلاثين ميلا داخل أراضي الدولة الشقيقة، وكشفت هذه الدول بوضوح عن موقفها الرافض لتواجد القوات التركية فوق الأراضي السورية تحت أي ذريعة أو حجة، كما أن هذه الدول شددت في الوقت نفسه على ضرورة مغادرة جميع القوات الأجنبية للأراضي السورية من دون ذكر لاسم هذه القوات، وهي بالمناسبة متعددة الجنسيات وتابعة لدول إقليمية ودولية، بعضها جاء بطلب من الحكومة السورية وبعضها فرض نفسه بالقوة، بل وأقام قواعد عسكرية شبه ثابتة، كما هو حال القوات الأمريكية التي يتحدث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن نية سحبها بعدما قال إن أمريكا «هزمت» «داعش» في سوريا والعراق. لا شك أن التواجد غير المشروع للقوات الأجنبية فوق الأراضي السورية يحمل تهديدا صريحا ومباشرا لوحدة الأراضي السورية وسلامتها ويحدّ من سيادة الدولة السورية على جميع حدود الدولة الجغرافية، وبعيدا عن الموقف من نظام الرئيس السوري بشار الأسد والخلاف بينه وبين العديد من الدول العربية بعد تفجر الأحداث في الدولة الشقيقة تزامنا مع ما يسمى «الربيع العربي» عام 2011، الذي اجتاح عددا من الدول العربية وألحق دمارا ببنيتها المجتمعية، ناهيك عن أضراره السياسية والاقتصادية من دون أن تتفتح وردة واحدة في أجوائه، بغير حاجة إلى ذكر للدخول في الأسباب. إن الدول العربية التي كشفت مؤخرا عن المواقف الجديدة فيما يتعلق بالأوضاع في سوريا يبدو أنها بدأت مقاربة سياسية صائبة وسليمة بكل تأكيد، يفهم منها أنها باتت مستعدة للتفريق بين الموقف السياسي من نظام الحكم في سوريا بقيادة الرئيس بشار الأسد، وبين واجب وضرورة رفض أي تهديد لوحدة الأراضي السورية واحترام سيادتها. هذا الموقف له أبعاده الاستراتيجية الثابتة على خلاف الموقف من النظام السياسي، فهو موقف متغير خاضع لعدة عوامل وظروف موضوعية وذاتية. الموقف العربي السليم والصائب هو الذي يؤكد وحدة سوريا وسلامة أراضيها ورفض أي تواجد غير مشروع للقوات الأجنبية فوق أراضي الدولة السورية تحت أي عذر كان، كما هو الحال في الموقف من الخطة التركية بشأن «المنطقة الآمنة»، والتي رأت الدول العربية فيها تهديدا لوحدة أراضي الجمهورية العربية السورية. هذا الموقف العربي المعلن يصب في مصلحة، ليس سوريا فقط، وإنما في مصلحة الأمن القومي العربي على المدى البعيد، وأعتقد أن تجربة التفريط بالعراق وتدميره وما شكل ذلك من تهديد وإضعاف للأمن القومي العربي يجب أن تكون حاضرة أمام الجميع. سوريا الآن، بعد الإنجازات العسكرية الكبيرة والنوعية التي حققتها في مواجهتها للجماعات الإرهابية التي سعت إلى تدمير الدولة السورية، تحت غطاء «إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد» سوريا بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى الدعم السياسي العربي نظرا إلى ما تواجهه من مخاطر حقيقية تهدد سيادتها ووحدة أراضيها، فمشاريع تجزئة الوطن السوري على أسس عرقية ومذهبية لم تتوقف بعد، وهذه المشاريع يجري العمل على إنجاحها تحت مسميات وحجج كثيرة مختلفة، للوصول إلى هدف تدمير الدولة والدفع بها إلى حالة الفشل، كما يحدث الآن في ليبيا على سبيل المثال. فالدعم السياسي العربي لسوريا ولحقّها في الدفاع عن وحدة أراضيها، ورفض الخطة التركية بإقامة «المنطقة الآمنة» من شأنه أن يوفر غطاء لأي تحرك سياسي سوري لمواجهة التهديدات التي تتعرض لها وحدتها الجغرافية والسيادية، وفي الوقت نفسه فإن ذلك من شأنه أن يشكل ضغطا سياسيا على تركيا نفسها وإحراجها فيما يتعلق بخططها ونواياها الحقيقية من وراء مثل هذه المنطقة، وخاصة ان خطة إقامتها يجري بحثها والإعداد لها بعيدا عن موافقة أو اتفاق مع الحكومة الشرعية في دمشق. هناك مؤشرات قوية على تحرك عجلة علاقات بعض الدول العربية مع سوريا إلى الأمام، وتحدثت أنباء عن تزايد عدد الدول العربية التي لا تعارض عودة سوريا إلى وضعها الطبيعي في الجامعة العربية، وربما قيام دولة الإمارات العربية المتحدة بإعادة فتح سفارتها في دمشق وتأكيد مملكة البحرين أن علاقاتها مع سوريا لم تنقطع هما من المؤشرات المشجعة على هذا التفاؤل، والحقيقة أن القطيعة بين سوريا وبعض الدول العربية لم تلحق الضرر بالأولى فقط وإنما بالدول العربية أيضا، لأن المتضرر الحقيقي في النهاية هو الأمن القومي العربي. بات واضحا من خلال رصد النتائج التي أفرزتها الأحداث والتطورات السياسية والأمنية والعسكرية التي تعرضت لها العديد من الدول العربية على مدى السنوات الأخيرة من القرن الماضي والقرن الحالي أن هذه النتائج كانت وخيمة جدا ولم تنحصر في نطاق هذه الدول وحدها، بل امتدت إلى المحيط القومي العربي بأكمله. مثل هذه النتائج يجب أن يكون فيها عبرة لجميع الدول العربية كي تسعى من أجل ترميم البيت العربي، من منطلق الوعي والإدراك بأن تحقيق المصلحة الوطنية مرهون ومرتبط بحماية والحفاظ على المصلحة القومية لكون الوطنية جزءا لا يتجزأ من المصلحة القومية العليا.
مشاركة :