قبل ساعات من انطلاق حفل جوائز الأوسكار، كان فيلم "كفرناحوم" قد تسرّب إلى اليوتيوب، ليعرض بنسخة عالية الجودة، وظلّ لأيامٍ عدّة على الموقع قبل أن يُحذف مساء أمس الثلاثاء، ليعود ويظهر في أكثر من نسخةٍ على مواقع الأنترنت. بدت إمكانيّة السيطرة على النسخ المسرّبة شبه مستحيلة، رغم أنّ الفيلم لا يزال يعرض في صالات السينما. تسريب الفيلم، أعاد فتح النقاش حول مضمونه، والرسائل التي أرادت نادين لبكي أن توصلها للرأي العام العالمي، وللمجتمعات العربية الغارق معظمها في فقر مدقع ومشاكل اجتماعية لا تعدّ ولا تحصى. فالفيلم الذي رُوّج له أنّه يطرح قضيّة اللاجئين السوريين من خلال الطفل زين الرافعي، لم يأتِ على ذكر جنسية الطفل ولا على كون أهله من النازحين السوريين، حتى أنّ لهجة زين وأهله هي مزيج من لهجة لبنانية سورية غير واضحة المعالم. أما الأحداث فتدور ضمن حيّز مكاني غير محدّد، عيّنة عن العشوائيات والعالم السفلي للمدينة الذي لا تعرفه غالبيّة سكّان المدينة نفسها، فجاء الفيلم ليصعقهم أنّ بينكم من لا يجد قوت يومه ولا يحمل أوراقاً ثبوتيّة. يبدأ الفيلم من قاعة المحكمة حيث يقوم زين بمقاضاة أهله لأنّهم أنجبوه ولم يوفّروا له أدنى مقوّمات الحياة الكريمة. هو لا يملك وأخوته حتى أوراقاً ثبوتيّة، في حين أنّ معظم النازحين يملكون أوراقاً ومسجّلون لدى مفوّضية الأمم المتحدة لشؤون النازحين، ويحصلون على مساعدات ولو زهيدة من قبل المفوّضية، إذاً مأساة زين بطل الفيلم ليس كونه نازحاً، بل كونه طفلاً فقيراً محروماً من أدنى حقوقه في حياة كريمة بحدّها الأدنى. لماذا لا تملك عائلة زين أوراقاً ثبوتيّة؟ لم يضء الفيلم على الأسباب، والمشهد الوحيد الذي يذكر الطفل جنسيته، يأتي في إطار بحثه عن فرصة للهجرة أوحتها إليه طفلة سوريّة تستعد للهجرة إلى أوروبا عن طريق مهربين غير شرعيين، هل ادّعى أنّه سوري ليهاجر؟ هو الطفل المشرّد لا جنسية له ولا ورقة تثبت أنّه كائن حي، (في أحد المشاهد، يطلب منه رجل ورقة تثبت أنّه "بني آدم" ليتمكّن من مساعدته في الهجرة). تتقاطع مأساة زين الذي يهرب من منزل والديه بعد إرغامهما أخته القاصر (11 عاماً) على الزواج، مع مأساة أثيوبيّة هاربة من كفيلها. هي عاملة تعترف أنّها لم تلقَ من السيّدة التي كانت تعمل لديها إلا الخير، هربت من منزلها بعد أن أغرمت بناطور مصري، حملت منه وأنجبت ابناً رفض الاعتراف به، فباتت مشرّدة من دون أوراق وأورثت حياة التشرّد لابنها. هل هي الضحية أم الجلاّد؟ أم أنّها كلاهما معاً؟ يضطر زين إلى الاهتمام باالطفل بعد سجن والدته لمخالفتها أحكام الإقامة، وهنا تدور أحداث الفيلم. طفل مشرّد يعتني بطفلٍ مشرّد، يعانيان الأمرّين، قبل أن يستجيب زين لرجل من داخل مخيم صبرا للاجئين الفلسطينيين (كما توحي لهجته والمكان الذي تمّ تصوير المشهد فيه) ويبيعه الطفل. يعود إلى منزل أهله، يفاجىء بوفاة شقيقته، يتورّط بجريمة، وهناك في السجن، يقرّر محاكمة أهله لأنّهم أنجبوه، لتخبره والدته أنّها حامل بمولود تتمنّى أن يكون طفلة لتعوّض خسارة ابنتها. هو اجترار لمأساة لا تنتهي طالما أنّ عقليّة الإنجاب غير المدروس لا تزال مستمرّة. على مدى ساعتين، تصوّر نادين لبكي حياة بؤس، لا طاقة فيها لأي باب أمل، كل الطرق فيها تؤدّي إلى مكان واحد، حيث لا مكان للحياة. لا تطرح أي حلول، ولا تضيء على نماذج نقيضة لتوحي أنّ ثمّة نقطة مضيئة في آخر النفق، لا شيء سوى اليأس والإحباط وحطام النفس البشرية بكل بشاعته. لا تقول بطريقة مباشرة للفقراء توقّفوا عن الإنجاب وهي النقطة التي استغلّها البعض لمحاربة الفيلم، بل تضيء على نماذج موجودة في المجتمع، الأثيوبية التي أقامت علاقة غير شرعية، مع وافد عربي يقيم أصلاً بطريقة غير شرعية، لتنجب طفلاً محروماً من أدنى مقوّمات الحياة، إلى أهل زين، الذين أنجبوا الكثير من الأطفال، لا يعرفون حتى أعمار أولادهم، كان على زين أن يخضع لفحص الطبيب الشرعي ليعلم أنّه بات في الـ12 من عمره. محروم زين حتى من حنان الأهل، هم نموذج لفئة من الأهل الغارقين في ظلام جهلٍ يسلبهم حتى القدرة على محبّة أولادهم، فيرمونهم إلى قدرٍ مجهول على قاعدة أنّ الطفل يولد ويولد معه رزقه، وإن لم يولد فهو بحد ذاته رزق لأهله. ينتهي الفيلم من حيث بدأ، فهل نجحت نادين في إيصال رسالتها؟ نجحت ربّما في تغيير حياة الطفل زين وعائلته، حيث استقبلته النرويج مع أهله لتضمن له حياةً كريمة. عدا ذلك، سيبقى الأهل ينجبون ويتركون أولادهم للقدر، وسيستمر زواج القاصرات، وسيستمر المجتمع السفلي باجترار مآسيه، دون أن يلتفت إليه مجتمع المدينة الغارق في النكران. هل كانت نادين تستحق الأوسكار؟ يطول النقاش حول أحقيّة نادين لكن من يقرّر؟ يبقى أن "كفرناحوم" نقطة مضيئة في تاريخ السينما اللبنانيّة، التي وصلت إلى العالميّة بإنتاج متواضع، يؤخذ عليه غرقه في السوداويّة التي تجعل من مشاهدته مهمّة مرهقة، طالما أنّ المشاهد يلعب دوراً سلبياً في التلصّص على مآسٍ دون أن يملك القدرة على التغيير. كفرناحوم فيلم تفوح منه "نتانتُنا"... ويستحق كلّ التصفيق ماذا قالت نادين لبكي بعد خسارة كفر ناحوم للأوسكار؟ نادين لبكي لـ"سيدتي نت": فيلم "كفرناحوم" غيّر حياتي وهذا أجمل ما حصل فيه
مشاركة :