«حين يؤلف الكاتب عمله الأول، فإنه يجهل قيمته، ويُشاركه بائع الكتب هذا الجهل. لو دفع لنا بائع الكتب المبلغ الذى يراه مُناسبًا، فإننا فى المُقابل نبيع له ما نراه مُناسبًا لنا. النجاح هو الذى يوجَّه كُلًّا من البائع والكاتب». اختار الإسبانى خورخى كاريون أن يقتطع تلك العبارة من كتاب الموسوعى الفرنسى دينيس ديديرو «رسالة حول تجارة الكتب»، ويضعها فى صدارة تقديمه للكتاب الذى جمع فيه خلاصة رحلته وراء الكتب فى شتى بقاع الأرض، حيث اختار كاريون لفترة طويلة الترحال سعيًا وراء أماكن بيع الكتب، وحكاياتها، وأصحابها، والظروف التى جمعته بها أو وضعت تلك الحكايات فى طريقه، ليخرج فى النهاية بخلاصة الرحلة بـ«زيارة لمكتبات العالم: أشهر مكتبات بيع الكتب»، وهو الكتاب الحائز على جائزة «أناجراما» فى إسبانيا عام ٢٠١٣، ونُقل إلى عشر لغات كان منها العربية، ليصدر مؤخرًا عن دار العربى للنشر. الكاتب الذى يُدّرس الأدب المُعاصر فى جامعة «بومبيو فابرا» فى برشلونة، ويكتب مقالات فى صحيفة النيويورك تايمز الواسعة الانتشار عالميًا، يأخذ قارئه العربي، عبر الصفحات التى نقلتها للعربية صياغة رشيقة للمترجمة ريم داوود، فى رحلة عن القراءة العادية بأسلوب يبعث على الارتياح، ثم التناقضات التى تُثير الانزعاج أو التهديد، متجاوزًا بصفحاته الحدود الجغرافية؛ ففى الحقيقة كل ما يحتاج إليه القارئ لينتقل من مكان إلى مكان آخر هو مجرد خطوة يدخل بها إلى مكتبة. تختلف الوجبة التى يُقدّمها الإسبانى الحاصل على الدكتوراه فى «الإنسانيات» إلى قارئه عن المعلومات المُتناثرة على ويكيبيديا أو غيرها من المواقع التى تُعطى نبذات عن الأماكن المختلفة فى مقال قصير أو حتى مُفصّل لكنه يمتلئ بالكثير من المعلومات التى تتسم بالرطانة؛ فيتناول تاريخ مكتبات بيع الكتب، والذى يختلف تمامًا عن تاريخ المكتبات العامة، فالأولى تفتقر إلى الاستمرارية والدعم المؤسسي، لكنها تتميز بقدرتها دومًا على التفاعل مع الجمهور بشكل مباشر، ما يمنحها نوعًا من الحرية، ولكنها غالبًا ما تواجه بقلة اعتناء الباحثين بها إلى أن تندثر، وتتحول مع الوقت إلى أسطورة، مثل ساحة كاتدرائية القديس «بولس» بلندن، والتى كانت تضم ثلاثين مكتبة، منها «ذا باروت» التى لم يكن صاحبها مجرد صاحب مكتبة، وإنما أحد ناشرى الشاعر والمسرحى الأشهر فى عصره ويليام شكسبير. يفتتح كاريون رحلته بالقول «كل مكتبة لبيع الكتب نسخة مكثفة من العالم»، وهى العبارة التى صدّرها الناشر العربى على ظهر الغلاف الذى صممه عصام أمين، مُتحدثًا عن الممرات الممتدة بين رفوف الكتب، والتى فى حقيقتها تُمثّل خطوطًا للتحليق بين شتى بقاع العالم، فالمكتبة هى الموضع الوحيد الذى يجمع الزمان بالمكان، حيث تجد مجلدا صدر للمرة الأولى فى عام ١٩٧٦، يجاور آخر ظهر بالأمس فقط، أو وصل للمكتبة توًا؛ ربما تقع عيناك على دراسة حول هجرات «ما قبل التاريخ»، أو تجد الأعمال الكاملة لألبير كامو -وهو من أشهر أدباء فرنسا فى القرن العشرين- تسبق فى الترتيب مؤلفات أعظم كاتب مسرحى وروائى وشاعر إسبانى فى القرن السادس عشر وهو ثيربانتس. انعطاف بسيط فى هذه الممرات يمكنه أن يربط بين الدراما الإغريقية والروايات الأمريكية العظيمة، وبين تاريخ الشرق الأقصى، بالروايات الأكثر مبيعًا حول الحياة فى المجتمعات الغربية. فقط على باب المكتبة لا تحتاج إلى جواز سفر حتى ترى «جريمة فى إسطنبول»، أو آلة زمن كى تعيش «أوقات عصيبة» مع تشارلز ديكنز. اختارت ريم داوود، خلال ترجمتها، أن تضع الألفاظ العادية التى تمر بالقارئ العادي، لتنقل إليه النصائح التى جمعها كاريون دون مفردات مُنمقة -إن صح التعبير- والتى تُشكّل فى جوهرها روح الأماكن التى تُباع فيها الكتب، وما الذى على البائع أن يُبقيه فى ذهنه من أجل حياة أفضل لمكتبته وحياته العملية؛ ففى اقتباسه عن رئيس المركز الإيطالى للكتاب والمطالعة، رومانو مونتروني، الذى عمل لسنوات فى دار نشر «فيلترينيللي» ببولونيا، يأتى وصف «الزبون» ليكون الأقرب لبائع الكتب، وليس «القارئ»؛ وهو ما جاء فى كتاب مونترونى «الوصايا العشر لبائعى الكتب» عندما قال «إن الزبون هو العنصر الأهم فى هذا المجال»، وفى كتابه «بيع الروح.. تجارة الكتب» يُشير إلى أهمية إزالة الغبار عن الكتب والرفوف التى تحملها بشكل يومى «يفعل ذلك من الأعلى للأسفل، وباتجاه عقارب الساعة، فى النصف ساعة الأولى من فتح المكتبة كل صباح. يعتبر ذلك وسيلة تذكره بمواقع الكتب وأماكنها من جهة، وتُمكِّنه من خلق علاقة وثيقة معها من جهةٍ أخرى». يتضمن الكتاب كذلك حكايات شيقة، منها قصص بعض الكتب الممنوعة، والتى أثّرت بشكل إيجابى على رواجها، مثل ما قام به النائب العام فى فرنسا عندما أصدر أمرًا بمنع كتاب «أزهار الشر» للشاعر الشهير بودلير، ما نتج عنه بيع جميع النسخ التى تحتوى على هذه القصائد الممنوعة، حتى النسخ التى بها بعض الأخطاء فى الكتابة والترتيب، والتى كانت قد استبعدت من قبل من قائمة البيع. هناك حكايات أخرى عن المكتبات التى تمَّ تخليدها فى نصوص أدبية، ومنها مكتبة ليوناردو دافينشي، وقصيدة مارسيو كاتوندا التى أسماها «مكتبة»، وكان يصف فيها الممر المؤدى إلى الدور الأرضي، والواجهة الزجاجية المزودة بإضاءة غاية فى القوة. والأهم، يلفت الكتاب كذلك إلى وجود مكتبات يستحيل التأريخ لها إلا من خلال العودة إلى الصور الفوتوغرافية، والبطاقات البريدية المصورة التى تنتمى إلى الحقب الزمنية التى نبحث عنها، ثم نعقد المقارنات ونحاول الوصول إلى العلاقات بين المحلات التى اختفت وانتهى نشاطها، وتلك التى لا تزال قائمة وموجودة؛ هذا إضافة إلى الاستعانة بالنصوص الأدبية والمقالات للفترة نفسها بالطبع؛ وهو ما قام به المؤلف الذى ضمّن فى كتابه العديد من الصور الفوتوغرافية القديمة والحديثة للمكتبات وأصحابها والقائمين عليها كيفما اتفق وزيارته؛ داعمًا فكرة التأريخ بحديثه عن مكتبتى «آلتير» و«عوليس» فى وطنه إسبانيا، وهما مكتبتان متخصصتان فى أدب الرحلات؛ كان كل من صاحبيْ المكتبتين يعتبر نفسه رحالة فى المقام الأول، ثم ناشرًا وبائع كتب ثانيًا؛ الأمر نفسه فى مكتبة «باريس» والتى تنتمى للنوع ذاته من المكتبات، حيث تفرض صاحبتها على الموظفين السفر معها إلى بلدة «هندايا» الفرنسية فى كل صيف. هذه المكتبات وغيرها عادة ما تمتلئ بالخرائط ومجسمات الكرة الأرضية، وعادة ما تبيع لوازم السفر الفعلية. يختتم الصحفى والأكاديمى الإسبانى حكاياته الشيقة بمشهد مؤسف لكل عُشّاق الكلمة والمكتبات فى العالم، وهو تحويل مكتبة «كتالونيا» والتى يقترب عمرها من المائة عام إلى أحد فروع مطعم ماكدونالدز للوجبات السريعة؛ يُرسل كاريون الألم ذاته الذى شعر به إلى القارئ عبر صورة من النسخة الأصلية لإعلان المكتبة ذلك الخبر، والذى جاء فى صيغة درامية مؤثرة للغاية تضمن استمرارها ونجاتها من أهوال الحرب الأهلية، ونجاتها من الحريق الذى أصابها، وغير ذلك؛ ويتنقل لمشهد مؤسف آخر وهو ما حدث مع مكتبة «البوصل» الإيطالية، والتى لعل فى اختيار إلقاء الضوء عليها إشارة للعالم الذى يفقد بوصلته تدريجيًا بغلق المكتبات، والاتجاه بقوة نحو مصادر أخرى للمعرفة معتمدة بشكل رئيسى على الإنترنت، مع احتفاظ المكتبات والكتب الورقية بقيمة خالدة لا تفنى؛ ربما من أجل هذا جاء الاقتباس الأخير قبل أن تُطِل علينا المراجع التى وثّق بها حكاياته، وهى عبارة فى كتاب «وحدة القارئ» للأمريكى ديفيد ماركسن تُشبه اليقين «لا توجد الأفكار إلا بداخل الأشياء».
مشاركة :