لم يدر بخلد "حنين" ذات ال عاماً، بأن الفرحة التي كادت تُفقدها صوابها حينما لمحت اسمها ضمن قرار تعيين دفعة جديدة من المعلمات، ستُدشن مرحلة صعبة ومثيرة في حياتها، تلك الحياة الهانئة والوادعة التي عاشتها في جدة، سيدة المدن وأيقونة الفرح. لقد تركت حنين، وهو الاسم الذي تفضله لحياة الشقاء التي تعيشها في تلك الغربة الأليمة، كل شيء وراءها، زوجها وأسرتها وحياتها وصديقاتها وذكرياتها وكل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة، من أجل تلك الوظيفة الموعودة التي ستحميها من غدر الزمان وظلم الإنسان. كانت للتو، قد أنجبت طفلتها الثالثة، لتكون هذه الولادة "المتعسرة"، بداية لمسلسل طويل من المعانة والألم والحسرة. حنين التي عملت في مدرسة خاصة لعدة أعوام، وفضلت الاستقالة بسبب غياب الأجواء الصحية بالمدارس الأهلية، بدأت مرحلة التنازل عن الكثير من حقوقها وقناعاتها، حيث تم رفض إجازة الأمومة بحجة انها أنجبت طفلتها قبل قرار التعيين، فتضطر للسفر إلى الجنوب حيث تم تعيينها في قرية نائية وبعيدة عن كل مقومات وملامح الحياة الحديثة، تحمل طفلتها ذات الأسابيع وحقيبة سفر سوداء دست فيها كل أحزانها وآلامها وحنينها وغربتها. مسلسل طويل وميلودرامي من الأحداث والمواقف والمعاناة، تبدأ حلقاته المثيرة عند الثالثة فجراً من كل يوم، حيث تستقل حنين وبعض المعلمات باصاً خاصاً يغوص بهن في صحاري ووديان مخيفة لمدة ثلاث ساعات للوصول إلى تلك المدرسة النائية والتي مازالت تغفو على تل من الدموع والأحزان لفتيات وسيدات وأمهات مغتربات. تودع حنين طفلتها الصغيرة بوجبة بكاء ولوعة وخوف، وتدعها مع خادمة غريبة لا تثق بها ولكنها لا تملك حيلة أخرى، وحتى هذه الخادمة لم تحتمل البقاء في مثل هذه الظروف الصعبة، لتبدأ حنين البحث عن حاضنة بديلة، وكانت هذه المرة، جارتها الجنوبية الرائعة التي تستيقظ فجر كل يوم لتأخد تلك الطفلة الغريبة. منذ ثلاث سنوات وحتى الآن، تعيش تلك الطفلة الصغيرة حياة مضطربة بين حضنين. لا تعود حنين من تلك الرحلة اليومية الشاقة، إلا وهي منهكة وحزينة، لا تقوى على القيام بأعباء أطفالها الثلاثة الذين يقاسمونها مرارة الاغتراب. في بداية كل عام، تتقدم حنين بطلب النقل الخارجي، وكلها أمل بتحقق حلمها ورغبتها، ولكن ذلك لا يحدث، لتستمر المعاناة كل تلك السنين التي جعلت من حنين امرأة أخرى، تختلف كثيراً عن تلك الفتاة المنطلقة العاشقة للحياة والتي تملك شبكة كبيرة من الصديقات والزميلات. لقد أصبحت حنين، سيدة وحيدة وحازمة وصارمة وتكاد تقوم بكل الأعباء والمسؤوليات والواجبات الكثيرة والكبيرة التي لم تكن تعرفها أثناء حياتها الجميلة في جدة. حنين التي تعيش غصص الألم والحزن والحسرة في كل يوم، ولأكثر من ثلاث سنوات، قابلة للزيادة طبعاً، مطالبة بأن تقوم بدورها التربوي والتعليمي والتنويري كمعلمة تصنع أجيال المستقبل، خاصة وهي متخصصة في مادة الرياضيات، وهذا ما لا يمكن تصوره فضلاً عن توقعه، إذ كيف تستطيع هذه المعلمة التي تملك سجلاً حافلاً بالمعاناة والغربة والمسؤوليات، وتفتقد لأدنى معايير ومقومات الاهتمام والتحفيز، أن تُمارس هذه المهنة المقدسة التي حملها الأنبياء والمصلحون؟ حكاية حنين، نكاد نسمعها في كل أطراف وأعماق وطننا الكبير، ورغم كل الوعود والإجراءات والمبادرات التي تقوم بها وزارة التعليم، إلا أن هذا الملف الخطير المعلمات المغتربات مازال يؤرق حياة الأطفال والمعلمات والأمهات والأسر، بل والعديد من أسر المجتمع السعودي. إن قضية المعلمات المغتربات، مأساة حقيقية تتجدد وتتمدد باستمرار، ولم تنجح كل الحلول المؤقتة والطارئة، لأن حجم المعاناة في زيادة مضطردة، إضافة إلى ما يترتب على هذه المأساة من ارتفاع لتكلفة السكن والمواصلات والتنقل، ناهيك عن الخسائر والأضرار الجسدية والصحية والنفسية، وغياب الأجواء الاجتماعية والأسرية. السؤال هنا: هل تُعتبر قضية المعلمات المغتربات والتي تُشكل ظاهرة خطيرة في مجتمعنا، أكبر من قدرات وإمكانيات وطموحات وزارة التعليم؟ هناك الكثير من الحلول الجادة والخطوات الفعّالة لمعالجة هذه الظاهرة الحساسة ومنها، توفير مواصلات حديثة وآمنة للتنقل بين المدن والهجر بسائقين مدربين وبرفقة رجال أمن، ومراعاة المعلمات المغتربات وتفضيلهن في طلبات النقل مكافأة لهن لتحملهن كل تلك الظروف والأعباء، وتفعيل حقيقي لقرار تقليص أيام الدوام، وتحفيز المغتربات ببعض البدلات والمكافآت كبدل نائي وخطر وتأمين طبي وبدل سكن، وتوفير وحدات سكنية مجهزة بالكامل بجوار المدارس النائية وبدون مقابل، وتوفير حضانة أطفال مهيأة، وعدم تطبيق قرارات الندب للمغتربات، ودمج مدارس القرى والهجر التي لا تتجاوز عدد طالبات بعضها أصابع اليد، وأن تتجرد أحقية النقل للمعلمات المغتربات من كل أشكال المحسوبية والعلاقات. كم أتمنى أن يكون ملف المعلمات المغتربات بكل ما يحمله من معاناة وتداعيات، هو الملف الذي يتصدر طاولة الوزير الجديد ليكون أول إنجازاته الحقيقية، لتعود البسمة من جديد في قلوب المعلمات المغتربات بعد طول انتظار.
مشاركة :