كان الذكاء الاصطناعي في السابق مسعى أكاديمياً هشّاً وصل إلى الوعي الشعبي من خلال أفلام الخيال العلمي مثل فيلم «2001» و«تيرميناتور» أو «المبيد». لكنه الآن يضمن للباحثين رواتب سخية، ويتحاور مع أطفالنا من خلال الأجهزة والهواتف الذكية. وقد أصبحت المعضلات الأخلاقية كتلك التي تطرحها الأفلام، مثل مدى الاستقلالية، التي ينبغي أن تحصل عليها هذه الآلات، والأولويات، التي ينبغي أن تخدمها، موضوعات عاجلة ذات تداعيات آنية. وتكمن أهمية الذكاء الاصطناعي في كونه جعل البيانات ثروة أشبه بـ«النفط» يمكن استثمارها وتعظيم المكاسب منها من خلال شركات تكنولوجيا المعلومات، التي تستخدم هذه البيانات في تطبيقات مبتكرة. للذكاء الاصطناعي تعريفات كثيرة، لكنه بصفة عامة يشير إلى البرامج، التي تدرك العالم من حولها أو تتخذ القرارات. وهو يستخدم الخوارزميات، والتعليمات التدريجية. وضمن الذكاء الاصطناعي مجال يُطلق عليه مصطلح «تعليم الآلات»، وفيه لا تتم تغذية الآلات بالرموز الخوارزمية فحسب، وإنما يتم تدريبها. فيتم إعطاء الكمبيوتر على سبيل المثال كثيراً من الصور المصنّفة، ليبدأ بصورة تلقائية في اكتشاف تصنيف الصور الجديدة. ويتضمن «تعليم الآلات» ما يُسمى بـ«التعليم المتعمق»، وهو مجال يتناول إيجاد نظريات وخوارزميات تتيح للآلة أن تتعلم بنفسها عن طريق محاكاة الخلايا العصبية في جسم الإنسان. وأحد فروع العلوم، التي تتناول علوم الذكاء الاصطناعي. ويعتبر من فروع علوم التعلم الآلي. وتُركز معظم أبحاث التعلم المتعمق على إيجاد أساليب استنباط بتحليل بيانات ضخمة من خلال استخدام متحولات خطية وغير خطية. وحققت الاكتشافات في هذا المجال تقدماً كبيراً وسريعاً وفاعلية في كثير من المجالات، لاسيما التعرف على الوجه والتعرف على الصوت والرؤية الحاسوبية ومعالجة اللغات الطبيعية. ويتعقب تيرينس سيجنوسكي أحد روّاد «التعليم المتعمق» تاريخ الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته في كتاب جديد بعنوان: «ثورة التعليم المتعمق». سوء تقدير ومن الغريب سوء تقدير حتى الخبراء بشأن تقدم هذه التكنولوجيا وغيرها. فقد كان أصل «التعليم المتعمق» هو «خوارزمية عصبية واحدة» تم تطويرها في خمسينيات القرن الماضي وأطلق عليها اسم «بيرسيبترون»، وكانت أول محاولة لمحاكاة الخلايا العصبية لدى الإنسان. وفي مقال نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» تحت عنوان: «البحرية تكشف عن جنين كمبيوتر إلكتروني من المتوقع أن يتمكن من المشي والحديث والرؤية والكتابة والتناسل بنفسه وأن يعي وجوده». ومن المفترض أن المقصود كان حدوث ذلك خلال جيل واحد. لكن المشروع سرعان ما اصطدم بعقبات عطلّته لفترة طويلة. رؤيتان متنافستان ويعود أصل «التعليم المتعمق» إلى بدايات الذكاء الاصطناعي في خمسينيات القرن الماضي، عندما كانت هناك رؤيتان متنافستان لكيفية ابتكار الذكاء الاصطناعي: واحدة تعتمد على البرمجة وبرامج الكمبيوتر، والتي هيمنت على الذكاء الاصطناعي لعقود، والأخرى ارتكزت على التعليم مباشرة من البيانات والتي استغرقت فترة أطول بكثير من أجل النضج. وفي القرن العشرين، عندما كانت أجهزة الكمبيوتر ضعيفة وتخزين البيانات مكلفاً جداً بمعايير الوقت الراهن، كانت البرمجة طريقة فعّالة لحل المشكلات. وكتب المبرمجون المهرة برنامجاً مختلفاً لكل مشكلة، وكلما كانت المشكلة كبيرة كان البرنامج أكبر. وأما الآن أضحت قوة أجهزة الكمبيوتر ووفرة البيانات أكبر بكثير. لذا، بات حل المشكلات باستخدام تعليم الخوارزميات أسرع وأكثر دقة وكفاءة. ويسلّط المؤلف في الفصل الأول الضوء على تطبيقات «التعليم المتعمق» الموجودة والمرتقبة: من السيارات ذاتية القيادة إلى ترجمة اللغات وتشخيص السرطان، إلى تداول الأسهم والتعليم الذاتي واكتشاف الأدلة القانونية. استثمارات بالمليارات ويشير سيجنوسكي إلى أن مشاهدة الشركات حدوث تحوّل في قطاع لم يشهد تغييراً منذ مئة عام، جعلها تقتفي أثره، فدفعت «جنرال موتورز» مليار دولار لشركة «كروز أوتومشين»، إحدى الشركات الناشئة في سيلكون فالي، تطور تكنولوجيا القيادة الذاتية، واستثمرت 600 مليون دولار في الأبحاث والتطوير عام 2017. وأضاف: «في عام 2017، اشترت (إنتل) شركة (موبايلي)، المتخصصة في أجهزة الاستشعار والرؤية الخاصة بالسيارات ذاتية القيادة، مقابل 15.3 مليار دولار». ويلفت إلى وجود رهانات مرتفعة في قطاع النقل الذي يساهم في الاقتصاد بتريليونات الدولارات. ويذكر المؤلف أن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي ستحدث تحولاً كبيراً في المشهد العالمي، وسيؤثر ذلك بصورة سلبية على كثير من الناس، لكنها تنطوي على فرص كثيرة أيضاً للجميع. السيارات ذاتية القيادة كما يوضح أن السيارات ذاتية القيادة سرعان ما ستعطل حياة ملايين سائقي الشاحنات وسيارات الأجرة، وفي نهاية المطاف لن تكون هناك حاجة لامتلاك سيارة في مدينة يمكن أن تظهر فيها سيارة ذاتية القيادة في غضون دقيقة. المؤلف يتوقع أنه عندما تُصبح السيارات ذاتية القيادة واسعة الانتشار، فسنكون عندئذ في عالم جديد شجاع، متوقعاً أن تكون الشاحنات هي أول السيارات التي تصبح ذاتية القيادة، وسيستغرق الأمر تقريباً 10 أعوام، بينما ستستغرق سيارات الأجرة 15 عاماً، وسيارات الركاب ستحتاج إلى ما يتراوح بين 15 إلى 25 عاماً لتتحول إلى ذاتية القيادة. ترجمة اللغات ويشبه سيجنوسكي تدفق المعلومات عبر شبكة الإنترنت بتدفق المياه عبر الأنابيب في المدينة، إذ تتجمع في مراكز بيانات عملاقة تديرها «جوجل» و«أمازون» و«مايكروسوفت» وشركات تكنولوجيا المعلومات الأخرى، بهدف استغلالها في تطبيقات الذكاء الاصطناعي المختلفة. ويشير الكتاب أيضاً إلى تعليم كيفية الترجمة باعتبارها من النتائج المذهلة الأخرى لـ«التعليم المتعمّق»، موضحاً أن التعليم المتعمق يُستخدم في الوقت الراهن في شركة جوجل لتقديم أكثر من 100 خدمة، بداية من رؤية الشوارع إلى الرد الذكي على الرسائل والبحث الصوتي. ويشير سيجنوسكي إلى مدى سرعة التغيير الذي يمكن أن يحدثه «التعليم المتعمق» بتأثيره على ترجمة اللغات، والتي وصفها بـ«الكأس المقدسة» بالنسبة للذكاء الاصطناعي، لأنها تعتمد على فهم الجملة. ويقول إن النسخة الحديثة التي أماطت «جوجل» اللثام عنها مؤخراً من «ترجمة جوجل» استناداً إلى «التعليم المتعمق»، تمثل قفزة هائلة في تحسين جودة ترجمة الذكاء الاصطناعي. ويلفت إلى أن الخطوة التالية ستكون تدريب «شبكات التعليم المتعمق» على فهم الفقرات، وليس فقط الجمل لتحسين الاتساق بين الجمل وتماسك النص. آبار المعرفة يقول سيجنوسكي: قبل فترة ليست طويلة، كان يتردد كثيراً أن رؤية الكمبيوتر لا يمكن أن تنافس القدرات البصرية لطفل عمره عام واحد. لكن ذلك لم يعد حقيقياً: فأجهزة الكمبيوتر الآن يمكنها إدراك أشياء في الصور بدرجة أفضل من البالغين، وهناك أيضاً سيارات تعمل بأجهزة الكمبيوتر على الطريق بقيادة ذاتية أكثر أماناً من قيادة شاب عمره 16 عاماً في المتوسط. وبدلاً من إخبار الكمبيوتر كيف يرى أو يقود، تعلم من الخبرة، واتبع الطريق الذي اتبعته الطبيعة منذ ملايين السنين، وما يغذي هذه التطورات هو آبار البيانات، لاسيما أن البيانات أضحت النفط الجديد. وتعلم الخوارزميات هو مصافي التكرير التي تستخلص المعلومات من البيانات الخام، ومن ثم يمكن الاستفادة من المعلومات في إيجاد المعرفة، وتؤدي المعرفة بدورها إلى الفهم وهو ما يقود إلى الحكمة. ومثلما يقول المؤلف: مرحباً بكم في عالم جديد شجاع من التعليم المتعمق. وتتعلم الشبكات المتعمقة من البيانات بالطريقة ذاتها التي يتعلم بها الرضع من العالم حولهم، بداية بالمشاهدة، ثم باكتساب المهارات المطلوبة تدريجياً من أجل التعرف على البيئة. هندسة عكسية للمخ وبصورة عامة، يعتبر كتاب سيجنوسكي في بعض أجزائه «سرداً تاريخياً» أو «مرجعاً» وفي أجزاء أخرى يبدو سيرة ذاتية. لكن لا تزال هناك أمور كثيرة تميز البشر عن الذكاء الاصطناعي، فكل تطبيقات الذكاء الاصطناعي الموجودة «محدودة» وملائمة للقيام بشيء واحد. لكن من خلال التعليم المتعمق، يطمح الخبراء إلى إيجاد «ذكاء عام اصطناعي». ويأمل «سيجنوسكي» أن يأتي اليوم الذي يتمكن فيه البشر من إجراء هندسة عكسية للمخ. ويقول: إن الطبيعة ربما تكون أكثر مهارة منا كأفراد، لكنني لا أرى سبباً يمنعنا كبشر من حل لغز الذكاء. المؤلف في سطور: البروفيسور سيجنوسكي بدأ حياته المهنية كفيزيائي في سبعينيات القرن الماضي، قبل أن يجد أن أدواته في علم الرياضيات يمكن الاستفادة منها في دراسة معالجة البيانات في المخ، وإنشاء أنماط جديدة من معالجة البيانات في أجهزة الكمبيوتر. وقد أصبح الآن عالماً متخصصاً في العلوم العصبية الحاسوبية لدى معهد سالك للدراسات البيولوجية، ويترأس مؤتمر «أنظمة معالجة المعلومات العصبية» منذ عام 1993 وحتى الآن.
مشاركة :