أقيمت منظومة التنمية المستدامة في بادئ الأمر على ثلاثة أبعاد، وهي: البُعد الاقتصادي، والبُعد الاجتماعي، وأخيرا البُعد البيئي، ولكن في الآونة الأخيرة وجد العديد من الدارسين والباحثين أنه ينبغي إضافة بُعد رابع لمنظومة التنمية المستدامة حتى تستقيم، فمن يقيس مؤشرات الأداء في حالة الرغبة في تنفيذ أهداف التنمية المستدامة في الدول والمؤسسات؟ لذلك تم إضافة البُعد الرابع وهو البُعد المؤسسي لهذه المنظومة، فماذا يعني البُعد المؤسسي؟ البُعد المؤسسي ببساطة يعني الحوكمة؛ والتي تعني بدورها المنهجية الإدارية التي تزود المؤسسة بالإجراءات والسياسات التي تحدد الأسلوب الذي من خلاله تدار العمليات بكفاءة. إن الحوكمة تضع الإطار لاتخاذ القرار الأخلاقي والإجراءات الأخلاقية للإدارة داخل المؤسسة على أساس من الشفافية، والمحاسبة، والأدوار الواضحة المحددة للعاملين. وتؤكد على الأداء مستخدمه الرصد، والإبلاغ، والتطوير، وتحسين العمليات، وإجراءات العمل. تعنى في بعض المراجع التحكم المؤسسي في المؤسسات بهدف نجاح المؤسسة وتقويتها على المدى البعيد وتحديد المسؤوليات داخلها مع ضمان حقوق جميع الأطراف التي لها علاقة بالمؤسسة وبالعدالة، وذلك من خلال الأسس التالية: المشاركة، وسيادة القانون، والشفافية، والاستجابة، والتوجيه نحو بناء توافق للآراء، والإنصاف، والفعالية، والكفاءة، والمساءلة، والرؤية الاستراتيجية. ويمكن أن نلخص معنى الحوكمة أنها: «مجموعة من القوانين والنُظم والقرارات التي تهدف إلى تحقيق الجودة والتميز في الأداء عن طريق اختيار الأساليب المناسبة والفعالة لتحقيق خطط وأهداف المؤسسة». باختصار فإن هذا يعني إن أي مؤسسة ترغب في السير قدمًا في تطبيق منظومة التنمية المستدامة بين أروقتها وبين نظامها الهيكلي وتقديم خدماتها أن تفكر جليًا في تبني البُعد المؤسسي في منهجية التنمية المستدامة بالإضافة إلى بقية الأبعاد الأخرى، ليس بهدف استقامة العمل وجودته فحسب وإنما يضاف إلى ذلك تميز الأداء والقدرة المنافسة السوقية وتحقيق الأهداف بالإضافة إلى البروز الإيجابي للصورة الذهنية للمؤسسة. حسنٌ، وماذا عن علاقة هذا البُعد بالعمل الحكومي والعمل في القطاع العام، أو ما يعرف بالأداء الحكومي؟ هل يمكن إدراج البُعد المؤسسي في العمل الحكومي من خلال قياس مؤشرات الأداء؟ ومن يضع مؤشرات الأداء على العمل الحكومي؟ يتميز العمل الحكومي أنه عمل احتكاري، بمعنى أنه لا يوجد من ينافس الوزارة في تقديم الخدمة التي تقدمها، فمثلاً لا توجد جهة إلا وزارة الداخلية لإصدار رخص السياقة، ولا يوجد جهة تقوم بإنشاء الوحدات السكنية إلا وزارة الإسكان، ولا توجد جهة تسير خطوط النقل العام إلا وزارة المواصلات، وبهذا المعنى. وبهذا المعنى فإنه يجب أن تقوم الدولة أو الحكومة الساعية والراغبة في تطبيق أهداف التنمية المستدامة في الأداء الحكومي بإنشاء منظومة أو إدارة أو لجنة محايدة لقياس الأداء الحكومي من خلال العديد من المؤشرات الدولية والمؤشرات المحلية، فمثلاً: إن كنا كدولة نهدف إلى تحقيق الهدف الحادي عشر المعني (بتوفير مدن ومجتمعات محلية مستدامة) فإنه ينبغي علينا أن نقيس العدد الإجمالي لعدد السكان ومساحة الأرض المتاحة، والنسبة العددية التي يجب أن يشملهم النظام السكني في المدن الجديدة التي تنشأ، بالإضافة إلى قياس الجانب الصحي والبيئي والنفسي في الموضوع، لذلك يجب أن نُقدر المساحة الصحية التي يحتاج إليها الفرد حتى يعيش في رفاه وهذا يحقق الهدف الثالث (الصحة الجيدة والرفاه)، فإن كانت المساحة ضيقة أو أن تكون الخدمات المتاحة في المنازل المقدمة للمواطنين غير مرغوبة فإن ذلك يعني إخلالاً بالهدف المستدام. حسنٌ، من يقوم بقياس هذه المؤشرات؟ هل وزارة الإسكان نفسها هي من يقوم بقياس تلك المؤشرات؟ طبعًا لا، فإن قامت هي بذلك فإن ذلك لا يعد من تحقيق أهداف التنمية المستدامة، لذلك فنحن نحتاج إلى جهة محايدة تقيس تلك المؤشرات. ومن ناحية أخرى، فإن العمل يكون قاصرًا إن كانت مؤشرات الأداء تقيس الأداء العام للمؤسسة التي نحن بصدد قياس أدائها فحسب، وإنما في منظومة التنمية المستدامة فإن البُعد المؤسسي يقيس الأداء من ثلاث جوانب حتى نتحقق مصداقية الأداء، وهي: { الأداء الفردي؛ وهي الأعمال التي يمارسها الفرد (الموظف، أيًا كان) للقيام بمسؤولياته التي يضطلع بتنفيذها في الوحدة التنظيمية (القسم أو الإدارة أو أكبر من ذلك) وصولاً لتحقيق الأهداف التي وُضعت له، والتي تساهم بدورها في تحقيق أهداف الوحدة التنظيمية. { أداء الوحدات التنظيمية؛ والتي نقصد بها القسم أو الإدارة أو وكالة الوزارة أو حتى وزير، وهي الأعمال التي تمارسها الوحدة التنظيمية للقيام بدورها الذي تضطلع بتنفيذه في المؤسسة، وصولاً لتحقيق الأهداف التي وضعت لها على ضوء الأهداف الاستراتيجية للمؤسسة وسياساتها العامة. { الأداء المؤسسي؛ وهي المنظومة المتكاملة لنتاج أعمال المؤسسة في ضوء تفاعلها مع عناصر بيئتها الداخلية والخارجية. إذن في منظومة التنمية المستدامة فإن الجميع يقاس أداؤه بصورة فردية مرة وبصورة جماعية مرات، وذلك حتى يتم تحقيق الأهداف العامة للدولة الساعية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، إن كانت الخدمات التي تقدمها الحكومة خدمات احتكارية، فما مبررات قياس الأداء الحكومي؟ تشير بعض الدراسات إلى أن تبني مفهوم قياس الأداء المؤسسي يحقق العديد من الفوائد التي تعود على الأداء الحكومي نفسه قبل أن تنعكس على رضا المواطن أو الزبون أو العميل، وبالتالي تحقيق أهداف التنمية المستدامة، منها: 1- تفادي مشكلة عدم الواقعية في تحديد الأهداف، أو عدم بذل الجهد المطلوب في تحديدها مما يجعلها أهدافًا هلامية بعيدة عن أي قياس أو تقويم موضوعي. 2- الارتكاز على أهداف واضحة قابلة للقياس يمكن بالتالي من إعطاء توصيف دقيق للأعمال المطلوب القيام بها لإنجاز تلك الأهداف، وبالتالي يتضمن الوصف المسؤوليات والالتزامات الوظيفية. 3- يمكن من اتخاذ الإجراءات الوقائية والتصحيحية والتحفيزية في أوقاتها المناسبة. 4- يفعل دور وسعي الإدارة المتواصل في تحقيق رضا المستفيد من الخدمة وتجاوز توقعاته والارتقاء بجودة الخدمات المقدمة. 5- المساعدة في إعداد ومراجعة الميزانية إضافة إلى المساهمة في ترشيد النفقات وتنمية الإيرادات. 6- يحدد وحدات قياس ممكنة لا تتعرض لمشكلات قياس الأداء في وحدات الجهاز الحكومي التي تقوم بمسؤولية أداء الخدمات. ولقد وجدت تلك الدراسات أنه يتطلب وضع وتحديد مؤشرات قياس الأداء المؤسسي الحكومي الدقة التي يعتمد عليها كعنصر أساسي في نجاح عملية القياس، فهي عملية ليست سهلة، وإنما يسبقها وضع مجموعة من الأسس اللازمة لاختيار المؤشرات في حين يجب أن تليها عملية متابعة ورقابة مستمرة. وضمن وخلال هذه المؤشرات يمكن متابعة الأداء وتحديد انحرافات سيره أثناء التنفيذ بهدف تلافيها ومعالجتها. لذلك فإنه بالعودة إلى برنامج العمل الحكومي 2019 – 2022 الموسوم بعنوان (أمن اقتصادي واجتماعي مستدام في إطار توازن مالي) نجد أن أحد أهداف البرنامج فيما يتعلق بالخدمات الحكومية ينص على التالي: (الاستثمار في المواطن من خلال تعزيز وتطوير استدامة الخدمات الحكومية في التعليم والصحة والخدمات الأخرى). هدف جميل، وإن كنا نطمح أن يشير البرنامج إلى بعض التفسيرات لكيفية تحقيق هذا الهدف إلا أننا لم نجد، وكل الذي وجدناه بعد ذلك في بند ثالثًا: تأمين البيئة الداعمة للتنمية المستدامة، خمسة تفريعات محددة نوعًا ما، وهي: 1- رفع كفاءة وفاعلية القطاع الحكومي، وتحتها ثلاثة نقاط. 2- رفع إنتاجية الموظف الحكومي وتعزيز الإبداع والمعرفة والابتكار، وتحتها أربعة نقاط. 3- تعزيز الرقابة والمساءلة والشفافية، وتحتها سبعة نقاط. 4- تحسين التخطيط الاستراتيجي ومتابعة الأداء الحكومي، وتحتها نقطتان. 5- تبني التقنيات الحديثة في مختلف القطاعات الحكومية، وتحتها أربعة نقاط. وإن كان صدور برنامج العمل الحكومي أمر جيد في حد ذاته، وخاصة أنه تم رفعه الى الجهات التشريعية لمناقشته وإصدار التقارير المناسبة فيه، إلا أن البرنامج كتب بصيغة إنشائية، فلا توجد فيه النسب الكمية والأرقام، وكذلك تنقصه المؤشرات التي بناء عليها يمكن قياس عمل الحكومة بعد انقضاء الفترة المحددة للعمل والتي هي عام 2022 أي بعد 4 سنوات من الآن، ولم يذكر البرنامج من هي الجهة التي ستقوم بالرقابة، وكيف ستتم الرقابة، كل هذه الأمور وغيرها كان لا بد أن يتضمنها برنامج عمل الحكومة حتى يقوم المجلس النيابي بمهمته في مراقبة الأداء لتحسين السعي لمنظومة التنمية المستدامة. لذلك نجد أنه حتى تكتمل الصورة العامة للبُعد المؤسسي في منظومة التنمية المستدامة، فإنه ينبغي أن نقول إن غياب المعيار الكمي لمخرجات الأداء الحكومي يمكن أن يشكل خطأ كبيرًا وعبئا يصعب تعديله، سواء للحكومة نفسها أو الجهة الرقابية أو حتى المواطن الذي نسعى لتقديم الخدمات إليه، لذلك نقترح التالي من أجل تذليل الصعوبات في قياس الأداء الحكومي: 1- السعي نحو صياغة أهداف الأجهزة الحكومية في شكل نتائج محددة قابلة للقياس الكمي. 2- ضرورة تبني الدولة سياسة تقسيم أية خدمة تقدم للجمهور إلى نوعين، فهي إما خدمة مجانية يكون معيار قياس الأداء معيارًا اجتماعيًا، أو خدمة اقتصادية يكون مقياس الأداء فيها مقياسًا اقتصاديًا. 3- فك التداخل والازدواجية في ممارسة مهام واختصاصات الأجهزة الحكومية لتحديد المسؤولية عن الأخطاء والتجاوزات، من أجل دعم دور جهاز المساءلة في رقابة الأداء. 4- تبسيط إجراءات الخدمات التي تقدمها الأجهزة الحكومية للجمهور بما يمكن من وضع معيار زمني لكل منها يسهم في قياس الأداء المؤسسي. 5- تطوير الجهاز الوظيفي في الأجهزة الحكومية بما يساعد في إعادة توزيع العمالة مع الاعتماد على التدريب التحويلي لسد العجز في تلك التي بها نقص ودفع فائض العمالة في الأجهزة الأخرى لترك العمل (التقاعد الاختياري)، أو توجيههم إلى بعض الأعمال الأخرى التي بها نقص. 6- توجيه الأجهزة الرقابية للعمل بالرقابة بالأهداف بدلاً من الرقابة بالإجراءات. 7- تبني سياسة تقديم الأجهزة الحكومية لخدمة متكاملة دون مشاركة وحدات حكومية أو خاصة بحيث يصبح قياس مستوى أداء الخدمة معبرًا عن الدور الذي قامت به الوحدة. 8- تبني الضوابط الخاصة بالشفافية وإلزام الأجهزة الحكومية بتطبيقها لتفادي الازدواجية في الأداء. فهل يمكننا في يوم من الأيام بلوغ أهداف التنمية المستدامة بصورة واضحة وجلية، من خلال تبني البعُد المؤسسي؟ نرجو ذلك. Zkhunji@hotmail.com
مشاركة :