أصبحت البيئة اليوم محددًا عالميا يفرض نفسه ويؤثر على التعاملات الاقتصادية والتجارية والعلاقات الدولية المعاصرة، وأصبح الاهتمام بها من أهم المقاييس لتقييم حضارة الدول، وأصبحت البيئة والتنمية أمرين متلازمين، أو وجهين لعملة واحدة. وقد أكدت تقارير البنك الدولي في العقد الأخير الاهتمام بالبيئة كركن أساسي في التنمية للحفاظ على الموارد الطبيعية من الاستنزاف والتدهور لمصلحة الجيل الصاعد والأجيال المستقبلية، كما شاركت البيئة في تحفيز الدول الأعضاء بالاهتمام بإصدار التشريعات الخاصة بحماية البيئة ومصادر الطاقة والاهتمام بدراسة علوم البيئة، وهذا كله يتطلب ترشيد استخدام الموارد غير المتجددة، وعدم تجاوز قدرة الموارد المتجددة على تجديد نفسها، وعدم تجاوز قدرة النظام البيئي على هضم المخلفات التي تقذف بها حتى لا يتلوث تلوثًا يضر بالإنسان والحيوان، ولقد حظي موضوع البيئة وتلوث البيئة على الاهتمام الكبير الذي ما زال يتنامى وخاصة بعد تجاوز التلوث الحدود الجغرافية والسياسية للدول فينتقل عبر الماء والهواء والكائنات الحية. إلا أن الموضوع لا يمكن تحديده بهذه الصورة البسيطة، فالبُعد البيئي أكبر من أن يتم طرحه بهذه الصورة الإنشائية، فنحن أمام صورة كبيرة ولكنها من غير إطار، وأمام عمل ولكنه غير ممنهج، لذلك يصعب على الدول العمل بمنهجية من ليست له منهجية، وإن كان لا بد فإنه يجب صنع إطار لتغليف الصورة الكاملة، ومنهجية عمل لتحديد أبعاد العمل البيئي حتى يمكن قياسه ومن ثم تقييمه. فإن لم نتمكن من ذلك فكيف يمكننا أن نعرف نصيب الفرد الواحد من الموارد المائية؛ وكيف يمكن أن نعمل عملية ربط بين هذا المؤشر وظاهرة معدل النمو السكاني والمتغيرات الديمغرافية، وكذلك ارتفاع مستويات المعيشة الناجمة عن إعادة توزيع الدخول التي تستهدفها بعض برامج التنمية الاقتصادية؟ كيف يمكننا أن نقيس معدل استهلاك الفرد اليومي والسنوي من الموارد الغذائية والمائية؛ وكيف يمكن عمل معادلة رياضية ما بين كل ذلك مع التوزيعات البشرية في القارات على كوكب الأرض؟ كيف يمكننا أن نعرف أو أن نحسب معدل تآكل الكوكب الحي وانقراض الأنواع، وقياس المتغيرات بالزيادة أو النقصان، وإقامة علاقة وجدانية بين كل تلك المتغيرات؟ وكيف يمكن أن ينعكس كل ذلك على كوكب الأرض، والأمراض المستعصية التي أخذت في الانتشار في المناطق المختلفة من الكوكب؟ وفي الأخير، كيف يمكن إقامة تلك العلاقة السببية التي يجب أن تقام ما بين البيئة وتنمية الدول والسير بها في طريق الاستدامة؟ في هذه المرحلة من الموضوع نصل إلى ما يعرف بمؤشرات البُعد البيئي في منظومة التنمية المستدامة. والمؤشرات هي - ببساطة - الأدوات التي يمكن أن نستخدمها لقياس شيء ما أو عمل ما، والتي تعرف ببساطة (KPI) Key Performance Indicators، فعندما يصاب شخص بالحمى فإننا نستخدم مؤشر الحرارة (الترمومتر) لنتعرف على مدى ارتفاع درجة الحرارة أو انخفاضها، ويمكن أن نستخدم بعض الأدوات لقياس ضغط الدم، وسرعة نبض القلب، وارتفاع رطوبة الجو، وهكذا، لذلك فعندما نأتي بمصطلح (المؤشرات) فإننا نعني الأدوات التي نستخدمها لتحديد مقدار التقدم المتحقق نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وكذلك يمكن القول إنها أدوات ومقاييس محددة مسبقًا من قبل الجهات المعنية بالتنمية المستدامة في الدولة لما تريد تلك الجهات أن تقيسه (مالية، وإدارية، وفنية،...إلخ) وتستخدم تلك المؤشرات للمساعدة في التأكد من أن الدولة قد نجحت في تحقيق أهدافها وعمل التقدم اللازم. ونعتقد أنه من أهم تلك المؤشرات ما يعرف اليوم (بالبصمة البيئية) أو ما تسمى في بعض المراجع (البصمة الكربونية) أو من بعض تلك المسميات، المهم ما البصمة البيئية؟ البصمة البيئية وكوب القهوة لنتصور أنك تريد أن تشرب كوبًا من القهوة، فماذا ستفعل؟ ببساطة فإنك ستذهب إلى جهاز صنع القهوة، وتضع فيها قليلا من الماء وربما كبسولة من القهوة، وبعض الحليب، ثم تضغط على بعض الأزرار ويقوم الجهاز بالباقي، وكلها بضع دقائق فتكون القهوة بين يديك. هذا المشهد الذي أمامك يخفي الكثير من العمليات التي لا تشاهدها أنت، فمثلاً: الماء؛ ألم تسأل نفسك من أين جاء الماء؟ فلنقل إن الدولة أتت بالماء من عمليات تقطير لمياه البحر، فبسبب هذا الكوب من القهوة تم تقطير عدة لترات من ماء البحر، ومن ثم نتج من ذلك ماء عذب وملح، والماء العذب يأتي إليك عبر أنابيب وصناعة ووسائل نقل كل هذه الوسائل والطرق لها تأثير معين على البيئة الطبيعية الذي أنت جزء منها، ربما تنبعث ملوثات أو مخلفات لا نعرف كميتها، ولكنها في الأخير تصل إليك بطريقة أو بأخرى إلى المنزل، لتفتح أنت الحنفية وتأخذ منها القليل من الماء العذب، ومن ناحية أخرى فإن الناتج الآخر وهو الملح يعاد مرة أخرى إلى ماء البحر، وهذا يعني زيادة نسبة الملوحة في البحر، وهذا على المدى الطويل يمكن أن يسبب أضرارًا كبيرة على الأحياء البحرية ومشاكل لا حصر لها، ولكنك لا تشعر بذلك، وإن كنت أنت أحد أسبابها. أما بالنسبة إلى القهوة؛ فالقهوة لا تُزرع في دولنا لذلك فإننا نجلبها من دول أخرى، حسنٌ ماذا يحدث؟ الدول تجند كوادر بشرية عديدة، وتقوم بجهود كبيرة في زراعة القهوة، وتستهلك كميات كبيرة من الماء لسقي أشجار القهوة، وتستخدم الكثير من الأسمدة الكيميائية والمبيدات الحشرية الكيميائية، حتى تنضج القهوة وتقطف، وبعد ذلك تصنع وتحمص، وتعبأ، ثم تنقل من تلك الدول عبر السفن أو الطائرات حتى تصل إلى دولنا، ومن ثم تعرض في الأسواق، وتأتي أنت ببساطة لتأخذها من على الرف وتضعها في سلة المشتريات وتدفع قيمتها وتعمل منها كوب قهوة. هذه القهوة ترى كم استهلكت من الجهود البشرية منذ لحظة زراعتها حتى وصولها إلى منزلك؟ كم من مواد كيميائية دخلت الأجواء والتربة حتى تنضج تلك القهوة؟ كم من انبعاثات غازية لوسائل النقل تطايرت في السماء حتى تتمتع أنت بكوب من القهوة؟ هذا بالإضافة إلى صناعة أكياس التغليف، وصناعة كوب القهوة، وصناعة وسائل النقل المختلفة، وصناعة المواد الكيميائية، وصناعة جهاز صنع القهوة، وصناعات كثيرة تتم لتقوم - حضرتك- بالتمتع بشرب كوب من القهوة، ترى ماذا يعني ذلك؟ لو يتم حساب كل هذا بالأرقام والبيانات فإنه يتضح أنك أنت - الإنسان والفرد - لك بصمة تعرف بالبصمة البيئية على كوكب الأرض، فبسببك أنت تزرع القهوة، فهذا يعني أن لك في تلك الدولة التي تزرع القهوة مساحة من الأرض مكتوبة باسمك لصناعة القهوة التي تقوم بشربها في الصباح، وباسمك أنت هناك شاحنة تنقل هذه القهوة إلى الموانئ، وباسمك أنت هناك مجموعة من العمال يقومون بالعمل من أجلك لتتمتع بشرب القهوة، كل هذا هي بصمتك أنت، فأنت - كفرد -تؤثر في وعلى البيئة، شئت ذلك أم لم تشأ، وبلغة الأرقام كم سيكون حجم بصمتك البيئية عندما ترغب في شرب القهوة؟ هذا ونحن نتكلم فقط عن القهوة، فما بالنا إن تحدثنا عن كل ما نستهلك، من أرز وملابس وسيارات وكهرباء.. إلخ؟ ترى كم سيكون حجم بصمتك البيئية؟ كم سيكون كمية غاز ثاني أكسيد الكربون والغازات الأخرى المتطايرة والمنبعثة في الغلاف الجوي بسببك؟ كم ستكون كمية المخلفات التي ترمى في الطبيعة بسببك؟ كم وكم.. وكم؟ وبالفعل عندما تمت كل هذه العملية بالأرقام وجد - وهذا بحسب أفضل النسب والأرقام - أن: أ. متوسط نصيب الفرد من إجمالي الأراضي المزروعة؛ بين هذا المؤشر نصيب الفرد بالهكتار من إجمالي الأرض المزروعة، وشهد هذا المؤشر انخفاضًا ملحوظًا خلال العشر سنوات الأخيرة حيث انخفض من 0.27% هكتار للفرد في عام 1995 إلى 0.23 هكتار للفرد في عام 2003. ويرجع هذا الانخفاض إلى ارتفاع معدل النمو السكاني. ب. كمية الأسمدة المستخدمة سنويًا؛ تقيس كثافة استخدام الأسمدة ويقاس بالكيلوجرام للهكتار، وعلى الرغم من ارتفاع استهلاك الأسمدة على مستوى الوطن العربي من 16.6 كجم عام 1970 إلى 44.9 كجم للهكتار عام 1998. غير أنه ما زال أقل بكثير من المتوسط العالمي والبالغ 105.4 كجم. ت. التغير في مساحة الغابات؛ يشير هذا المؤشر إلى التغير الذي يحصل مع مرور الوقت في مساحة الغابات بنسبة مئوية من المساحة الإجمالية للبلد، وقد شهد هذا المؤشر تدهورًا كبيرًا خلال الفترة 1995 - 2002. حيث كانت نسبة التغير (-0.88%) ففي الوقت الذي كانت فيه الغابات تغطي نحو 6.42% من المساحة الإجمالية للوطن العربي عام 1995. أصبحت تشكل 6.06% فقط، وهي نسبة متدنية بالمقارنة بالمعايير الدولية التي تحدد مؤشرها بنسبة 20% من المساحة الإجمالية لكل بلد. ث. التصحر؛ يقيس هذا المؤشر مساحة الأراضي المصابة بالتصحر ونسبتها إلى المساحة الإجمالية للبلد، وقد بلغت نسبة التصحر في الوطن العربي حوالي 68.1% من المساحة الإجمالية. طبعًا، هذه بعض المؤشرات، وهكذا تقاس، ولكننا هنا أغفلنا الكثير من الأمور- وكان هذا متعمدًا - فمثلاً كم حجم الكهرباء التي تم استهلاكها لصنع القهوة؟ هذه الطاقة الكهربائية تنتج من حرق الغاز الطبيعي أو البترول، ترى كم كمية الغاز الطبيعي التي أحرقت حتى تتولد الكهرباء؟ ثم عملية الحرق تلك كم ولدت من غازات وانبعاثات غازية؟ وكم حجم الضرر الذي نتج عن كل هذا؟ كل هذا من أجل كوب من الشاي أو القهوة الذي يتمتع به الفرد الواحد فما بالنا ونحن نتحدث عن كوكب الأرض وكل المواد الاستهلاكية التي تقوم الأرض بإنتاجها بصورة يومية؟ وجانب آخر، عندما ترغب الدول في إقامة مصانع، فإنه من غير الحكمة أن نقيس كميات التلوث التي ينتجها المصنع الواحد فقط، أو كل مصنع وحده، فإن هذا لا يعطي أي نوع من المؤشرات، لذلك وجد أنه ينبغي أن يحسب عدد المصانع التي تقام على منطقة معنية، ربما منطقة صناعية، بأبعاد معينة، بمعنى آخر كذا كيلو في كذا كيلو، ثم نحسب كم تستوعب هذه المنطقة من مصانع (ربما 10 مصانع، ربما أكثر أو أقل)، وذلك بحسب كمية النفايات التي تنتج من كل هذه المصانع، وكمية الغازات التي تنبعث من كل هذه المصانع الموجودة في المنطقة، بمعنى أن نحسب الطاقة الاستيعابية لكل هذه المصانع كوحدة واحدة متكاملة مقارنة بالأرض والمساحة المتاحة لإقامة كل هذه المصانع، ثم نحسب عدد الأفراد العاملين في كل هذه المصانع وتأثير هذه المصانع على أوضاعهم الاقتصادية وأوضاعهم الاجتماعية، وكمية الانبعاثات التي يتم استنشاقها، وتأثير كل هذه الانبعاثات على أجسام هؤلاء، وكم يصرف لعلاج الأمراض الناجمة من هذه الانبعاثات التي تضر العاملين. وكم دينارا يصرف لعلاج المخلفات الصلبة والسائلة الناتجة من هذه المصانع، وكيف تصرف؟ وما الإجراءات المتبعة للتخلص من كل هذه المخلفات؟ هذا إن كنا نتحدث عن نطاق مجتمع ضيق كمجتمع المنطقة الصناعية، ولكن وجد أن الإدارة البيئية والمؤشرات البُعد البيئي يجب أن يغطي مساحات كبيرة لتقيس تأثير الانبعاثات على المجتمع المحيط بالمنطقة الصناعية أيضًا، كل هذا يجب أن يؤخذ في الاعتبار. وهذه صورة واحدة فقط من جانب البُعد البيئي، فإن كنا نتحدث عن التنمية المستدامة، فإنه ينبغي أن نتحدث عن المياه العذبة التي نشرب، والأغذية التي نأكل، والحياة الفطرية التي تعيش من حولنا، والطاقة الكهربائية والطاقات البديلة التي تنير حياتنا وتنقلنا من مكان إلى آخر، والبحار، والغابات، والصحراء، والهواء الذي نتنفس، وأمور عديدة، كل هذه الأمور والقضايا يجب أن تُحسب وأن نضعها في اعتباراتنا وخاصة عند رغبتنا في السير في تحقيق منظومة التنمية المستدامة في حياتنا وبين أروقة بلدنا. Zkhunji@hotmail.com
مشاركة :