يزداد مأزق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تعقيدا كلما اقترب تاريخ البريكست، لا فقط على مستوى ما تواجهه رئيسة الوزراء تيريزا ماي بشأن الرفض المتواصل لخطتها بل أيضا على مستوى الرأي العام الشعبي الذي استفاق على كذبة النعيم الموعود بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي وبات مشككا في جدوى الانفصال. لندن - “لقد انتهت بريطانيا” هذا ما قاله دين أتشيسون، وهو سياسي أميركي من الحزب الديمقراطي تولى منصب وزارة الخارجية من 1949 إلى 1953 في فترة حكم الرئيس هاري ترومان. وكانت تلك هي اللحظة التي غيّرت ميزان القوى، حيث أصبحت الولايات المتحدة تملأ دور بريطانيا الإمبراطوري السابق كقوة مهيمنة مستقرة في الغرب. ويستحضر مايكل هيرش، محلل الشؤون البريطانية في مجلة “فورين بوليسي”، هذا المثال، متوقعا أن تعيش بريطانيا لحظة انتكاسة أخرى في تاريخها، وقد يصبح مشهد توجه رئيسة وزراء المملكة المتحدة تيريزا ماي إلى بروكسل للمطالبة بالمزيد من الوقت لإخراج نفسها من حفرة بريكست، بمثابة لحظة مهمّة أخرى في تراجع بريطانيا النسبي. فقد أصبحت الرسالة واضحة: يمكن أن يعيش الاتحاد الأوروبي دون بريطانيا، لكن بريطانيا لا تستطيع أن تُواصل دون الاتحاد الأوروبي. ويبدو أن هذه الرسالة وصلت إلى البريطانيين الذين خرجوا السبت (23 مارس) في مسيرة مليونية بوسط لندن للمطالبة باستفتاء جديد على الانفصال. ونظم المسيرة حملة صوت الشعب بالتزامن مع توقيع أكثر من 4 ملايين و420 ألف شخص على عريضة إلكترونية للمطالبة بإلغاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، حسبما نقلت صحيفة إندبندنت البريطانية. وتم إطلاق العريضة على الموقع الإلكتروني للبرلمان البريطاني، نهاية فبراير الماضي. وقال النائب البريطاني، تشوكا أومونا، المتحدث باسم جماعة المستقلين الجديدة في مجلس العموم البريطاني إنّ المسيرة “شهدت مشاركة مليون شخص وفق إحصائية لحملة (صوت الشعب) عند الساعة (15:30 ت.غ)”، حسب المصدر ذاته. وأومونا أحد مؤسسي الحملة التي انطلقت في أبريل 2018، عبر 4 من نواب البرلمان البريطاني، إضافة إلى الممثل الإنجليزي باتريك ستيوارت وعدد من الشخصيات العامة. وسار المتظاهرون من طريق بارك لان إلى ميدان البرلمان. ورفع البعض منهم لافتات تقول “أفضَل اتفاق هو عدم الخروج” و”نحن نطالب بتصويت للشعب” في تجمع وصفه منظموه بأنه قد يكون أكبر احتجاج ضد الانفصال حتى اليوم. وكان عمدة لندن، صادق خان، من حزب العمال المعارض على رأس المسيرة، وغرّد قائلا “نحن الشعب وعندما يتعلق الأمر ببريكست نريد أن تكون لنا كلمة بشأن مستقبلنا”. وبذات النبرة قالت زعيمة الحزب الوطني الاسكتلندي، نيكولا ستيرجن، إنها “فخورة بالتحدث” في المسيرة. ووصفت صحيفة إندبندنت المسيرة بـ“أنها واحدة من أكبر المسيرات التي تشهدها بريطانيا خلال القرن الحادي والعشرين”. كما صنفتها “المسيرة الأكبر” منذ المظاهرات المرافقة لحرب العراق في العام 2003. وبعد ثلاث سنوات من الجدل لا يزال الغموض يكتنف كيفية وتوقيت الخروج من التكتل أو إن كان ذلك سيتم في الأصل مع محاولة ماي التوصل إلى سبيل للخروج من أصعب أزمة سياسية في البلاد منذ نحو 30 عاما. وكان المخطط له في الأساس هو أن تخرج بريطانيا من التكتل في التاسع والعشرين من الشهر الجاري، غير أنه لم يعد من الممكن الالتزام بهذا الموعد بسبب الانقسام الشامل للبرلمان البريطاني حول اتفاق الخروج. لذلك اتفقت دول الاتحاد الأوروبي وماي ليلة الجمعة/السبت على تأجيل خروج بريطانيا حتى الثاني عشر من أبريل المقبل على الأٌقل وحسب الاتفاق، فإنه في حال وافق البرلمان البريطاني على اتفاق الخروج، فإنه من المنتظر أن يتم الخروج في الثاني والعشرين من مايو المقبل، أما في حال لم تحدث موافقة البرلمان، فإن الاتحاد الأوروبي سينتظر من لندن تقديم مقترحات جديدة قبل الثاني عشر من أبريل المقبل. ولا توجد خطة خروج سليمة وصالحة. وفي ظل الانقسام بين الشعب وبين السياسيين فإن أغلبية البريطانيين يرون قرار الخروج من الاتحاد أهم قرار استراتيجي تواجهه المملكة المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية. وقال غاريث راي (59 عاما)، الذي جاء من بريستول للمشاركة في المظاهرة، “كنت سأشعر بإحساس مختلف لو كانت عملية منظمة جيدا واتخذت الحكومة قرارات راشدة. لكنها فوضى تامة”. وأضاف أن “البلاد ستنقسم بصرف النظر عما سيحدث ومن السيء أن تنقسم على كذبة”. وقال هارولد جيمس، المؤرخ في جامعة برينستون الأميركية، “إن حزب المحافظين وحزب العمال منكسران”، فيما يؤكد مايكل هيرش أن كارثة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي غيّرت كل شيء، مشيرا إلى أنها تمثل فرصة للاتحاد الأوروبي لينتقم من التوجهات الشعبوية الصاعدة في أوروبا والتي كان لها صدى في بريطانيا ودفعت نحو ترجيح نتائج الاستفتاء في يونيو 2016 لصالح خروج بريطانيا. وتحول الأمر بالنسبة لبروكسل إلى معركة قوة، تجعل حزب المحافظين يزداد تمسكا بموقفه من البريكست مع اقتراب الانتخابات وتصاعد تحدي القوى الشعوبية اليمينية التي تهدد بكسره مجددا في الانتخابات البرلمانية في مايو المقبل. وإذا فشلت ماي، التي تواجه ضغوطا للاستقالة، في التفاوض حول صفقة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فلن يحطّم ذلك حكومتها فحسب، بل سيعزز سمعة كبير المفاوضين في الاتحاد الأوروبي ميشال بارنييه وغيره من البيروقراطيين البارزين في بروكسل، الذين ترجع القرارات إليهم في النهاية. قد لا تتمكن ماي من وضع صفقة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي للتصويت عليها دون إجراء تغييرات كبيرة. لكنها تعرف أن فوزها على بروكسل مستبعد بسبب التنازلات التي تحتاج إلى أن تقبل بها. ونتيجة لذلك، انتهت مصداقيتها، ويجد البريطانيون أنفسهم بحسب وصف المحامي العام روبرت باكلاند أمام “أزمة دستورية
مشاركة :