قراءة في آية (4): القتال والقتل

  • 3/30/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

القصدية المتناهية في دقتها في كل كلمة من كلمات القرآن العظيم، وفي كل حرف كذلك من حروف أي كلمة من كلمات القرآن، وبما أنها قصدية فلا بد أنها ذات دلالة مقصودة قصدًا، ولا تنوب عنها دلاليا غيرها من الكلمات على الإطلاق، ومثالنا هنا هو عنوان المقال، فما بين القتل والقتال هو الألف في الثانية التي قيل عنها بأنها زائدة وهي بخلاف ذلك ونحن لا ننفي ذلك بل الدلالة هي التي ترفض ذلك بشكل قطعي، فالقتال تحوي «ألف» المشاركة بمعنى يلزم القتال وجود طرفين يحرص كل منهما التغلب على الآخر، بينما في القتل لا يوجد طرفان متحرفان للقتال، بل طرف واحد، والسياقات القرآنية تُفصح عن ذلك كما سيأتي. عندما نأخذ «الألف» بعين الاعتبار دلاليا يكون القتال بين طرفين مصداقًا لقوله تعالى في سورة البقرة آية 190 « وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم...» وفي أول حالة قتل على وجه الأرض نُصّ عليها بصيغة القتل وليس القتال (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)) المائدة 28. نلحظ هنا أنه لا أثر لصدام وتزاحم بين طرفين كل منهما يحرص على قتل الآخر، وامتناع أحد أطراف النزاع بحسب مضمون الآية عن المعاملة بالمثل حوّل المفهوم من قتال إلى قتل، ويا شسوع الفرق بينهما. ونعود للتذكير بمقدمة المقال حيث إن كل كلمة مقصودة قصدًا إلهيا، وعليه فإن القتال استُبق بـ « كُتب» كما في قوله تعالى في سورة البقرة 216 « كُتب عليكم القتال وهو كُره لكم» والدلالة التي تتضمنها «كُتب» أنها تعطي خيارًا آخر دائمًا حيثما وجدت، فكُتب عليكم القتال يتوافر معها بنفس الوقت خيار السلم (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها...) الأنفال 61. ولتأكيد المعنى للقارئ الكريم، فإن هذا المعنى موجود في الصوم (كُتب عليكم الصيام..) فمن منا لا يعرف أنّه مع الصيام هناك خيار الإفطار للمسافر والمريض والحامل و..و.. «فعدة من أيام أُخر» وكُتب لازمة من لوازم القصاص (كُتب عليكم القصاص) مع وجود خيار «العفو» (فمن عُفي له من أخيه...) ومع الإرث خيار الوصية، ونخلص من هذا أن القتال في سبيل الله وهو المشروع والمأجور ليس على إطلاقه بل هناك خيار آخر ومُقدم عليه إذا انتفت أسباب القتال ألا وهو السلام والوئام والصدوع للحوار، فما بالنا يا تُرى بالقتل، أبشع الجرائم وأولها حدوثًا في التاريخ، وما يلفت الانتباه بالقتل حين نقارنه بالسرقة من حيث العقوبة نجد لبشاعته أن الله سبحانه وتعالى أورده بصيغة المضارع (ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم...) بينما في حالة السرقة جاء الخطاب الإلهي بصيغة «اسم الفاعل» (والسارق والسارقة) واسم الفاعل يدل على الاستمرار بمعنى امتهان السرقة؛ أي الإضرار بالناس أصبح حِرفة السارق. وجود خيار آخر مع القتال ممثلاً بالسلم يتساوق بالمعنى العميق مع دلالات اسم الله «الرحمن» وينتظم مع الخطة الإلهية للناس وخلافتهم للأرض بغرض التعمير وليس التدمير، ومن هنا نجد الحرص النبوي على إعطاء الخيار للطرف المُعادي قبل الشروع بالمعركة مُتأملاً حقن الدماء، للتفرغ للجهاد الأكبر، جهاد البناء والتنمية والدعوة والتوعية التي تمتص الوقت والجهد والفكر. ومن دقائق القرآن ورحمات الله العظيمة أنه لم يستخدم «فرض» مع القتال وإلا لأصبح قتالاً من دون خيارات أخرى، حيث الفرض يُلغي الفعل الإنساني بينما «كُتب» تفسح المجال للتفاوض والحوار لتجنب الصدام المسلح، ألا يتفق هذا والخط العام الذي يبتغيه الله لنا في هذه الحياة، فالفرض يتعارض كليا مع فطرة الإنسان، فطبيعة الفطرة الإنسانية تنفر من القتال وتنسجم مع حب البقاء والحياة (كُتب عليكم القتال وهو كُره لكم...) والتوقف عند «الكره» بضم الكاف و«الكره» بفتح الكاف لأمر ضروري لارتباطه بموضوع البحث، حيث إن الكُره تدل على الكراهية الفطرية «جِبلة الإنسان تنفر من الموت» وتأتي بنفس المعنى ولكن كراهية مرغوبة «... حملته أُمه كُرهًا...» والكَره تعني الاضطرار والجبر وهذا جلي في قوله تعالى في سورة النساء 19 «يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كَرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن...» جاء الكره بفتح الكاف، بمعنى عدم اتباع أي وسيلة تُجبر وتضطر المرأة من خلالها إلى التخلي عن حقوقها، وقوله تعالى (ولله يسجد من في السماوات والأرض طَوْعًا وكَرها...» الرعد 15 ولعلّه من نافلة القول أنه لا يوجد مُطلقًا في الإسلام قتال من أجل القتال، بل القتال في الإسلام مُقيد بأهداف وكلها سامية وجليلة، وأولها إعلاء كلمة الله (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم) التوبة4، والهدف الثاني يتمثل في صيانة الأرض من الفساد (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين) البقرة 251. وحفظ بيوت الله من الهدم هي الهدف الثالث الأسمى من القتال «ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يُذكر فيها اسم الله كثيرًا» الحج 40. هذه قراءات لا فضل لنا فيها ولا ندّعيها، ولكن حالفنا توفيق الله بالاطلاع على جهود منْ نذروا أنفسهم للبحث في هذا المجال، الذين عكفوا على دراسة كتاب الله الذي لا تنقضي عجائبه، وهذه خلاصات ما توصلوا إليه من شتى أقطار العالم الإسلامي، لهم من الله الأجر والثواب ولهم منا الدعاء والشكر وهذا ما نستطيعه، فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين الذي أعاننا على التفقه بكتابه، ولا يزال المسير طويل مع كتاب لا تنضب دلالاته.

مشاركة :