مع إعلان استقالة الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، تتحرك الأزمة الجزائرية إلى احتمال حدوث انفراج، ولكنه احتمال لأن الطريق إلى الحل النهائي ما زالت ضبابية على الأقل. بعض المحللين الجزائريين فيما يكتبون حول الحراك الحاصل في الجزائر أن هذا الحراك يمثل «الموجة الثانية من الربيع العربي»، والتي قد تستفيد من أخطاء الربيع الأول، وقد يكون ذلك صحيحاً وقد يكون مبالغاً فيه. ما يحدث في الجزائر لافت للنظر ونتائجه الأخيرة سوف تقرر الكثير، ليس لمستقبل الجزائر، بل ربما لمستقبل منطقة الشمال الأفريقي العربي برمتها. ليس بالأمر السهل توقع أي طريق سوف يسلكها الحراك، فهو في جزء منه يشابه حراك الربيع الذي اجتاح المنطقة العربية في العقد الثاني من القرن الحالي، وفي جزء منه مختلف. المتشابه كثير، أولاً الحراك لم يكن وليد يومه، بل بدأت جذوره ربما في العهدة الثانية للرئيس بوتفليقة الذي استطاع في البداية أن يُضمد جراح الجزائر بعد عشرية سوداء (هي في الحقيقة حمراء من كثرة ما أريق فيها من دم)، إلا أن النظام في العهدتين الأخيرتين أصبح قعيداً، يدار تدريجياً من أشباح في مؤسسة الرئاسة، مع تهميش للمؤسسات الأخرى، ومع تفاقم المرض على الرئيس أصبح في عزلة، كما أصبحت أختام الدولة المركزية في يد مجموعة صغيرة غير منتخبة، لها قدرة التحريك وليس عليها عبء المساءلة، فزادت مساحة الفساد وأصبحت الأحزاب شكلية، فإن هي تعاونت مع حاملي الأختام نالت بعض ثمار السلطة، وإن عارضت أصبحت مهمشة بل ربما متهمة وانفضت عنها الجماهير. ولأن السلطة تمسك بمفاصل الخبز والمرق، في اقتصاد هجين قشرته اشتراكية وباطنه رأسمالي متوحش زادت نسبة الفقر وتزايد كل من حجم البطالة واتساع رقعة عدم المساواة، والميل لهجرة الشباب إلى الخارج، مع تضخم لأرصدة القلة، فأصبحت الدولة بعيدة عن جماهيرها التي أصيبت بخيبة الأمل، ولو أخذنا مؤشر صندوق الانتخاب لوجدنا عزوفاً بيناً في عدد من الانتخابات الأخيرة، حيث فقد الجمهور الثقة والأمل في التغيير من خلالها. من المتشابه ثانياً الصاعق الذي فجر الحراك، كان البوعزيزي في تونس، وخالد سعيد في مصر، وأطفال درعا في سوريا، مرض الرئيس في الجزائر، هو الصاعق. إنه حدث يصادف تراكم أخطاء سياسية، ولكنه لا يصنع تلك الأحداث، هو حدث ملتهب يُرمى في وقت ما على كومة من القش الجاف فتشتعل، ولم يرَ عاقل أن رجلاً في مثل مرض الرئيس بوتفليقة وهو ينتقل على كرسي متحرك ويتحدث بالإشارة، يمكن أن يكون قادراً على تدبير أحوال أربعين مليون جزائري، معظمهم من الشباب، إلا أن حاملي الأختام لم ينتبهوا إلى تلك الإشارات اللافتة، حيث بدأ الحراك جهوياً، أي من خارج العاصمة، وسرعان ما تطور ليصل إلى قلب العاصمة، وتعاظمت في الوقت نفسه مطالبه، من رفض الترشيح للعهدة الخامسة إلى تغيير شامل في العقد الاجتماعي. المتشابه الثالث في الحراك أنه ليست له (رأس)، فهو تراكم عدم رضا مع قلة قناعة بالأحزاب القائمة المعارضة والموالية، واستفادة واضحة من وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة في العقد الأخير التي سهلت القدرة الفائقة على الحشد والتنظيم. أما الرابع فهو السلمية التي سار بها الحراك حتى الآن، وهي ليست اختراعاً جزائرياً، ولكن يمكن القول إنها تأصيل جديد في المسار، فكل الدعوات التي تصدر للتجمع تشدد على السلمية وأيضاً عدم الالتفات للشعارات التي تدعو ولو مبطناً إلى العنف أو رفع شعارات فئوية أو مناطقية. تلك هي المتشابهات الأربع التي يمكن رصدها في الحراك الجزائري والادعاء بأنها تماثل إلى حد كبير ما حدث فيما يعرف بالموجة الأولى من الربيع العربي.أما المختلف فالنخبة الجزائرية على الجانبين، جانب الدولة وجانب الحراك، على وعي تام بالمصير المظلم الذي وصله معظم «حراك الربيع العربي» على الجانب الشرقي من الجزائر، إلا أن الوعي لا يكفي لتجنب الإظلام وسقوط مؤسسات الدولة أو الذهاب إلى صراع اجتماعي عميق يدمر الجميع، لعل العشرية السوداء - الحمراء في تسعينات القرن الماضي وأحداثها ما زالت عالقة في ذاكرة الجميع، كما أن الجزائر واجهت منذ الاستقلال صراعاً بعضه دموي، كصراع بن بلة (الميّال إلى الاشتراكية) مع آيات أحمد وبوضياف (الميّالين إلى التعددية). ومعظم الصراعات السابقة حلت باستخدام العنف، الاستدراك أن الحراك الجزائري الحالي رغم سلميته، يحمل في طياته مخاطر أيضاً، في كونه حتى الآن لم يشكل قيادته، وهو أمر قد يطول وقد لا يحدث، فتتسرب من هنا أمراض ربيع العرب القاتلة، حيث يقوم فصيل منظم بالقفز على الحكم. الأخطر في كل ما يحدث، وهو ما أبطل مفعول ربيع العرب الأول أن الحراك يفقد مشروعاً فكرياً ومتكاملاً، وهو يعرف ما لا يريد، ولكن لم يتبلور على وجه اليقين ماذا يريد؟ فلم تتح للنخبة الجزائرية في العشر سنوات أو أكثر الماضية مساحة لنقاش مشروع فكري متكامل للدولة المطلوب بناؤها التي تتواءم مع الوضع الجزائري في القرن الحادي والعشرين، هذا الغياب للمشروع الفكري يؤخر الوصول إلى حل سلمي معقول ومقبول بين أطراف النزاع. ما هو معلن من مطالب بعض منها غير واقعي وربما لا منطقي، وأيضاً لا يشير إلى استيعاب الدروس العربية والجزائرية السابقة. فالمطالبة بإزاحة كل الطواقم السابقة في الإدارة كمتطلب سابق لأي وفاق، يعني إفراغ الدولة، وبالتالي تركها لمن يمكن أن يقفز أولاً على مقود الحكم، ثم يقوم بنفي الآخر، تلك وصفة تقود إلى الفوضى. واضح أن الحراك بحد ذاته فجّر نوعاً من الصراع داخل الدولة، فانشقت الأحزاب الموالية وابتعدت أحزاب أخرى عن نطاق النظام، بل وصارت هناك مطاردة (للفاسدين) دون وضع أسس قانونية لتلك المطاردة، غير الحاجة لتقديم بعض القرابين! ويقوم الجيش وهو المؤسسة الوطنية المتماسكة بطبيعة تكوينها العسكري بتقديم خريطة طريق لحل شغور مركز الرئيس والدعوة إلى انتخابات بآجال معروفة، وبعدها يقرر من ينتخبهم الشعب وضع عقد اجتماعي جديد يناسب جزائر القرن الحادي والعشرين، إلا أن هذا الحل ما زال يراوح مكانه حتى بعد استقالة الرئيس. الاستفادة من أخطاء وتجارب الغير هي شعارات تطرح من بعض الحالمين من النخب الجزائرية، لا تنزل إلى الواقع لأنها تحتاج إلى شجاعة قبول الحلول الوسطى. بعض السياسيين الجزائريين غير معترفين بالتدرج، بل طال النقد في المرحلة الأخيرة مؤسسة الجيش! لا شك أن عدم الثقة بين الناس والنظام بمؤسساته واسع، إلا أن دروس الجيران تفرض تجاوز أزمة الثقة للوصول إلى حلول وسطى انتقالية. ما ينقص الحراك الجزائري بجانب غياب القيادة الموحدة والفراغ الفكري في تحديد ملامح المشروع المراد لقيام دولة مدنية حديثة وعادلة، توافق النخب الذي لم يتحقق حتى الآن. الاحتمالات الواردة هي إما انسداد الطريق والذهاب إلى تسلط جديد، وفوضى خبر شرورها الشعب الجزائري، وإما الذهاب إلى حلول وسط تنقل الجزائر بشكل آمن إلى حداثة مطلوبة، وهذا ما سوف يضع التجربة الجزائرية في إطار النجاح التاريخي أو الفشل التاريخي، وذلك ما سوف تظهره لنا الأيام.آخر الكلام: تأثير كل من العولمة والجوار الثقافي (الفرنسي) نسخ تكتيكات حركة السترات الصفراء في فرنسا، حيث تصاعدت المطالب تدريجياً، وحشدت الجماهير من خلال التنظيم والانتظام.
مشاركة :