خمسا وعشرين مرة وقف غالبية أعضاء الكونغرس الأميركي يصفقون تأييدا لخطاب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو حول إيران وملفها النووي. خمس وعشرون مرة، عدد يقارب ما يحظى به بشار الأسد في خطاباته التي لم نعد نسمعها. الفرق بين التصفيق في الحالتين أن أعضاء الكونغرس يملكون الإرادة المستقلة في الوقوف والتصفيق والإيماء بالإيجاب، ليست استجابة مدفوعة الثمن أو تحت التهديد، كما هو حال جمهور الأسد. وهي المرة الأولى في تاريخ إسرائيل التي يخطب فيها مسؤول إسرائيلي خطابا عالميا يناشد فيه السلم الكوني والمصلحة الجماعية، حتى في خطابات الجمعية العمومية للأمم المتحدة كانت جل الرسائل الإسرائيلية للعالم تركز على المساحة الضيقة؛ الشأن الإسرائيلي - الفلسطيني، وفي أحسن الأحوال التنديد بالإرهاب العالمي، مثل التنظير الذي تردده كل دول العالم، بما فيها إيران وكوريا الشمالية. من رداءة الحال العربي أن أصبح حتى الإسرائيليون، أعداؤنا التاريخيون، يشفقون على العرب ويخرجون في المحافل الدولية للذود عنهم والتذكير بحقوقهم. ولكن كما يقال بأن لا عداوة دائمة، فإن الواقع بعد الخطاب يقول إنه لا عداوة كاملة، فقد تشتبك المصالح وتفرض نفسها رغم الاختلاف الجذري والتباعد في الأهداف. ما تردد حول أن كلمة نتنياهو هدفها تحسين صورته من أجل الانتخابات المقبلة بعد أيام ليس دقيقا لسببين؛ الأول أن الخطاب أذيع في الإعلام الإسرائيلي متأخرا خمس دقائق للتأكد من خلوه من أي دعاية انتخابية، والسبب الثاني أن استطلاعات الرأي لم تظهر أي تقدم لنتنياهو بعد الخطاب. أهم ما قيل في الخطاب البليغ أن رفع العقوبات عن إيران لا بد أن يكون مشروطا بثلاثة: وقف عدوانيتها ضد جيرانها، وقف تمويل ودعم الإرهاب حول العالم، ووقف التهديد بتدمير إسرائيل. شعر غالبية الشارع العربي، وحتى المسؤولون العرب، بحرج كبير بعد هذا الخطاب، إسرائيل الأقل تضررا من إيران، هذا مع فرض أنها متضررة حقا، اعتلى رئيس حكومتها، ضد رغبة رئيس الولايات المتحدة، أكثر المنابر العالمية وجاهة ليحذره من ضرب مصالح حلفائه في المنطقة من أجل اتفاق قد يوفر بنهاية المطاف فرصة كبيرة لحصول إيران على صواريخ نووية. اختلف معنا الإسرائيليون فيما يخص القضية الفلسطينية، واتفقوا في تجريمهم للمواقف الإيرانية في المنطقة، فهل من الحرج الاعتراف بوجود نقطة اتفاق مع العدو الإسرائيلي؟ المسألة نفسية، الحاجز النفسي بيننا وبين إسرائيل يأبى علينا الإقرار بوجود مصلحة مشتركة، ولكن الواقع أن هذه المصلحة موجودة، وكان نتنياهو مبادرا بالقفز فوق هذا الحاجز، والظهور بمظهر رجل السلام العالمي الذي يتجاوز الخلافات من أجل المصلحة الكبرى. ما قاله نتنياهو نقوله كل يوم في الغرف المغلقة، ونقوله أحيانا باقتضاب في الإعلام العربي، ولكنه لم يكن يوما بهذا الوضوح والجرأة كما رأيناه في القاعة الزرقاء للكونغرس، قاعة صناعة القرار العالمي. الواضح أن هناك ثلاثة أعداء لنا في منطقة الشرق الأوسط؛ إيران وميليشياتها، العنف الإسلامي، وإسرائيل، وهذا الترتيب وفقا لدرجة الخطورة ومداها الزمني. رغم أن نتنياهو الذي يطالب بالسلم العالمي من خلال الوقوف ضد إيران، قد فشل في تحقيق السلام في محيطه الضيق، بل ونجح في تدمير غزة والتضييق على الضفة، لكن حتى مع القوة الإسرائيلية العسكرية، فإسرائيل لم تلوِ ذراع جيرانها، بل ظلت معركتها داخلية مع خصمها الفلسطيني، وظل الخطر الإسرائيلي على مجمل الشرق الأوسط محدودا بالمقارنة بالتمدد الإيراني الذي أحدث هذه الفرقة العظيمة بين المجتمعات بأن عزز الطائفية، وشق الصف، وأوغر الصدور، وأشاع الكراهية، حتى أصبحت المنطقة الأولى في استهلاك السلاح دوليا. أما التطرف الإسلامي فهو قضية دولية، كل العالم يرفضه ويندد به، بمؤسساته الرسمية والشعبية، وهذا ما يجعل المعركة ضده أكثر سهولة وأقرب للنهاية. إيران هي الخطر المحقق والوشيك والبعيد، هي التي تحكم قبضتها على أربع عواصم عربية، كما قال نتنياهو، وتريد أن تقنع أميركا بأن قتالها ضد التطرف السني في العراق وسوريا سيؤمن مصالح الغرب وحلفائهم، ومقابل هذه الصورة المحسنة عنها فهي تستحق الثقة فيما يخص الملف النووي. واشنطن بالمقابل تريد أن تقنع جيران إيران بأنه لا خوف عليكم من نووي إيراني حتى لو وجد، وأن أميركا ستوفر الحماية لكم كما توفرها لكوريا الجنوبية واليابان من نووي كوريا الشمالية. علينا أن نذكر أوباما وإدارته بأن السلاح النووي الذي تملكه كوريا الشمالية يشابه ما تملكه إسرائيل، أي أنه لم يخلق طموحا يتجاوز حدود الدولة في الاستيلاء على الأرض أو الأفكار، كما تفعل إيران التي لم تصل للسلاح النووي بعد..! إيران أخيرا تردد أسطوانة الإمبراطورية الفارسية التي اتخذت بغداد عاصمة لها، والحقيقة أن هذا الإعلان جاء متأخرا 12 عاما، كان يفترض أن يكون منذ الغزو الأميركي للعراق في 2003. الذي تعزز بالإبقاء على نوري المالكي في الحكم ثماني سنوات لاحقة، كرس فيها للطائفية ومكّن للحرس الثوري الإيراني من احتلال العراق عسكريا وأمنيا، ومهد لظهور التطرف السني من «القاعدة» وحتى فرْخَيْها؛ «داعش»، وجبهة النصرة. مصطلح الهلال الشيعي الذي ذكره الملك عبد الله الحسين بعد غزو العراق، وأحدث ضجة في الشارع العربي هو واقع مر، ولكنه يكتسب مرارة أكبر بتمدده، بعد أن انضمت صنعاء لبغداد ودمشق وبيروت وغزة، والخشية أن لا يظل الهلال هلالا، فهو كما يظهر يتمحوق، بهدف أن يكون بدرا. ومما لا شك فيه أن لولا وجود السعودية كحائط صد، لكانت الإمبراطورية الفارسية شملت عموم البلدان العربية، بمباركة أميركية وأوروبية لا يعنيها إن كان الحاكم يرتدي عمامة أو عقالا أو ربطة عنق، طالما أنه يتحكم بآيديولوجية الشارع، ويراعي المصالح الغربية.
مشاركة :