لا تبدو كتابة المفكر اللبناني كريم مروة عن سمات الشخصية اللبنانية، منقطعة عن مسيرة مراجعاته التي بدأها منذ سنوات، بل هي وثيقة الصلة بعملية إعادة «تكوين الوعي» التي استجاب لها الكاتب، هو الذي يعود إلى الصيغة اللبنانية التي عاداها طويلاً، انطلاقاً من مقولات الماركسية والاشتراكية والتقدم، ومن تفسيرات الديمقراطية والدولة والبنى المجتمعية والطبقات. من الشمولية إلى الخصوصية، ذلك هو العنوان الذي يمكن أن يُعطى للجهود التي يبذلها كريم مروة في عدد من إصداراته، ومن الخصوصية إلى إعادة اكتشاف الصلات الوثيقة بين الأحكام الخاصة والأحكام العامة. ذلك هو الطموح الذي لا يخفى أن كاتب «المراجعات» يسير على دروبه، ويكدّ في سبيل بلوغ بعض محطاته الحاسمة، للإقامة فيها فكرياً وشخصياً، ولو على سبيل الموقت، والاستعداد للانطلاق في رحلة البحث الجديدة. حدّد الكاتب لذاته غرضاً من كتابه «ملاح الشخصية اللبنانية» (الدار العربية للعلوم ناشرون)، ألا وهو تقديم وجهة نظر مفيدة يستخلصها من قراءاته، وتحصيل متعة شخصية من العودة إلى قراءات سابقة، أما التوظيف المستقبلي لتلك القراءات فجاء في صيغة وعد من قبل كريم مروة بتوالي الإصدارات، أي ما يمكن شرحه من لدن القارئ في صيغة استكمال النظرة من جهة الكاتب، إلى ما كان عليه الوضع اللبناني، وفي ما يرجى له أن يكون في المستقبل القريب والبعيد. اختار كريم مروة ستاً وعشرين شخصية أدبية وفكرية ليثبت فرضيته حول تعدد الشخصية اللبنانية وغناها وانفتاحها، وليؤكد قدرتها على التكيّف والتأقلم والإبداع في مختلف المجالات التي انشغلت بها واشتغلت عليها. لكن كل ذلك، لم يحجب الحنين الأصلي لدى «كريم»، فأتت غلبة الاختيار في مصلحة عدد من رفاق الدرب النظري والطريق العملي، وأصدقاء الانتماء إلى الإيديولوجيا الأولى، وإلى أولئك الذين عاشوا في ربوع الاتحاد السوفياتي أو مرّوا به، أو وجهوا التحية لتجربته من بعيد. أسماء مثل حسين مروة ومحمد عيتاني ومهدي عامل، وسليم خياطة وأنطون تابت ورئيف خوري وجورج حنا، تشرح فكرة غلبة الانتماء وتدل عليها. إلى جانب «الرفاق» هؤلاء ورد العِلْمُ بأسماء لامعة، بعضها كان له فضل المساهمة التنويرية من موقع أدبي، كجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإلياس أبو شبكة، وتوفيق يوسف عواد والشاعر القروي، رشيد سليم الخوري، ومارون عبود، وبعضها الآخر أطلق كتاباته النقدية من موقع يجمع بين الخلفية التاريخية والدينية والأدبية، كالشيخ عبد الله العلايلي والأب طانيوس منعم وأحمد عارف الزين، وأمين الريحاني وعمر فاخوري وشكيب أرسلان، أما مقعد العلم فكان من نصيب العالم حسن كامل الصباح، وكان لنظيرة زين الدين الصوت الوحيد، الذي مثَّل رأي الحركة النسوية اللبنانية. نظرة سريعة إلى كل الأسماء تنبئ أن الشخصيات المختارة كانت يسارية على وجوه شتى، تتراوح يساريتها بين الالتزام الحزبي، وبين «الالتزام المجتمعي»، مروراً بالانتساب العام إلى فضاء اليسار، هذا حين يكون هذا الفضاء محدداً بعناوين عامة، مثل الحاجة إلى التغيير، والعمل في سبيل الوصول إليه، من مختلف المواقع الفكرية والعلمية والاجتماعية. لم يشذ عن هذه «القاعدة» سوى اسم ميشال شيحا، الذي حضر كممثل وحيد للصيغة اللبنانية، ولم يَخلُ استحضاره من قبل الكاتب من البحث عن صيغةٍ ما، أو كتابةٍ ما، تقيم صلة وصلٍ للمناخ اليساري، مع كاتب «اليمين اللبناني»، الذي لم تكن كل كتابته، وفق اختيار كريم مروة، يمينية. كان في وسع كريم مروة أن يضيف أسماء أخرى لها رمزيتها، من جهة الليبرالية اللبنانية والناطقين بلهجاتها، على غرار ما فعل مع الجهة اليسارية، بعموميتها، بحيث أن التوازن في التنوع، ضمن الشخصية اللبنانية يظل أكثر وضوحاً. وعموما، قدمت الانتقائية التي حملها الكتاب شهادة كافية عن السمات الخمس التي سعى الكاتب إلى إثباتها، مثلما قدمت صلة وصل واضحة مع الأسس الأربعة المكملة لها، التي جعلها كريم مروة شروطاً ضرورية حتى تأخذ السمات دورها في توحيد اللبنانيين حول مفاهيم تخص واقعهم الوطني، وترتبط برؤيتهم لهذا الواقع ضمن المحيط العربي العام. لكن مراجعة الكتاب بتأنٍ، تساعد على رؤية قصد الكاتب الذي سبق «عرضه الشخصياتي»، أي أن الفرضية سبقت التحليل، وهذا أمر مفهوم إذا ما جرى جلاء القصد الأصلي لكريم مروة، ألا وهو تقديم «نقد ذاتي» للتجربة الشخصية، ومحاولة تبيان أعطاب، أو مغالاة الرؤية الخاصة، التي لم تلتقط، بسبب من بنيتها الشاملة، فرادة التجربة اللبنانية وغناها. الهدف المسبق، الذي وضعه الكاتب نصب كتابته، غضّ الطرف عن أن السمات التي اختيرت على وجه التحديد، لتأكيد شخصية وطنية محددة، ليست سمات لبنانية محضة، وقد يشترك فيها بلد مجاور أو أكثر، مثلما قد تجد قرينات لها في ديار بعيدة من ديارها. إلى ذلك، فإن بعض ما ذكر حول ملامح الشخصية اللبنانية، يكاد يكون ترداداً لمادة التعليم الرسمية، وعلى صلة قرابة ببعض الأفكار «اللاواقعية» التي جرى الترويج لها في سبيل التغطية على أبعادها الاجتماعية الحقيقية، ولطمس حقيقة تناقضات هذه الأبعاد. على سبيل المثال، ماذا يعني القول بحب اللبناني للهجرة؟ هل الأمر كذلك؟ ثم لماذا حب الهجرة أمر خاص لبناني؟ وكيف ينفرد اللبناني بالطموح إلى المعرفة والقدرة على امتلاكها، هو من دون سائر أشباهه المواطنين في بلاد أخرى؟ ولماذا التعدد الديني والإثني وما يترتب على ذلك، ميزة لبنانية فقط؟ إذ ممَّ يشكو التعدد في سوريا وفي العراق مثلاً؟ وهل التعلق بالحرية، بشقيها الفردي والعام، توق لبناني محض؟ التذكير بذلك، ليس من قبيل أن الكاتب لا يملك أجوبة، بل إنه هو العارف بالأمر، يريد أن يجد ممراً «لقناعته» الجديدة، التي ترفع بعض وقائع الاجتماع اللبناني إلى مرتبة «البديهيات» الضرورية، ذلك أن لا قيامة لبلد من دون الالتفاف حول ثوابت ومشتركات، تقترب من منزلة «المسلمات»، التي لا يجوز المساس بها. لنقل أن اختيار كريم مروة كان سياسياً مباشراً وليس نظرياً افتراضياً، هذا يبدو أكثر جلاء عند ذكر الأسس التي ترتبط بالسمات. من الأسس، جعل الولاء للبنان وحده، واعتبار لبنان جزءاً مكوّناً من العالم العربي، وطلب احترام الكينونة اللبنانية من قبل الشركاء العرب، ومن قبل اللبنانيين أنفسهم، والدفاع عن الاستقلال في وجه كل اعتداء وإلى ما تقدم يضيف الكاتب أساساً آخر، هو الاتفاق على حماية وتطوير النظام الديمقراطي التعددي، في ظل دولة مدنية ديمقراطية... لا يترك ما تقدم مجالاً للشك، في أن ما قدمه كريم مروّة هو «تقرير عن الظرف السياسي الراهن، وعن مهمات وبرنامج المرحلة»، أي أن القول هو قول سياسي، لا ينتقص من جدواه وضرورته، تطعيمه باسم نظري عام، مثلما لا ينتزعه من واقع الملموس، السعي إلى جعله نظرية لبنانية عامة. يحاول كريم مروة، فيضيف إلى حصاد العمر، هو يدهش بثباته في ميدان العطاء، فلا يُحاسب على قليل جناه، بل يظل دليلاً ساطعاً على أن البذار الجديد يظل أخضر ويانعاً في حقول الثمانين، والجنى إشارة خير مهما كان قليلاً.
مشاركة :