بعد ما يزيد على الأربعين عاماً، فإن حديثي عن علاقتي بالقصة القصيرة، بتجربتي مع قراءتها وكتابتها والسير في دروب عوالمها هو حديث عن عمرٍ عزيز قضيته معها وبين جوانبها. عشقت القراءة بوصفها نافذة مشرعة أنظر من خلالها لعالم ملوّن وباهر مختفٍ خلف الكلمة. بدأت القراءة اليومية المنظّمة وكنت حينها في الصف الثاني متوسط. في وقتها لامست القصة القصيرة شيئاً في نفسي. هل لأنني فتّحت عينيّ على حكايات أبي وعمتي الضريرة، يرحمهما الله؟ أم لأن في القصة سحراً يجعل منها سلوى اللحظة العابرة بين البشر بأخبار اللحظة الماضية، وما يمكن أن يكون عبرة اللحظة القادمة؟ رسم لي مجموعة من الأصدقاء المخلصين لقضية الإبداع والأدب والثقافة جدول قراءاتي في مراحلي الأولى، ولقد بدأت قراءاتي المنتظمة بالرواية، وتحديداً الرواية الروسية. لكن، حين جئت إلى الكتابة تحركت القصة لتملأ مخيلتي وكلماتي وحلمي. وكان أن سرت في دربها؛ درب مرصوف بالسهولة حيناً وبالصعوبة أحياناً أخرى كثيرة. درب يصطف على جانبيه جمهور القراءة، وبينهم يقف الكتّاب والنقاد والصحافيون. درب يلوح منحنى مخبّأ في نهايته خلف غيم الكتابة والقراءة. لكن وبعد مسيرة جاوزت الأربعين سنة، ما زلت أحثّ الخطى على الدرب نفسه، علني أصل إلى ذلك المنحنى، وأبداً يبقى المنحنى في بعده وسحره وإشارته المغوية إليَّ. القصة القصيرة فنّ السهل الممتنع، وهي بقدر ما تتطلب موهبةً تتطلب بالقدر نفسه ذكاءً ليس بالعادي. ذكاءٌ يمكّن صاحبها من رؤية ما لا يرى، ويمكّنه أيضاً من كتابة الجريء وغير المتوقع. وإضافة إلى هذا يتطلب فن القصة قراءات مستمرة ومعمّقة في عموم الأجناس الإبداعية. والقصة القصيرة في كُنهِها: هي اصطياد حاذق للحظة زمان عابرة، ونابضة بحيواتها، ومن ثم تسمير هذه اللحظة على مشجب الزمن، والغوص رأسياً في عوالمها، وأخيراً ذرّ مسحوق سحري عليها، بحيث تنتعش حية كلما مرَّ بها قارئ، وكلما تناولها ناقد، أو مسَّ عوالمها مسرحي أو سينمائي. ظُلمت القصة في الوطن العربي، وربما في بلدان أخرى، حين لحقت بها كلمة قصيرة، فكلمة "القصيرة" هذه جعلت وما زالت تجعل الكثير من الكتّاب، وتحديداً الكتّاب الشباب، يعتقد مخطئاً بسهولة تسور جدارها والقفز إلى ساحتها، حتى دون أن يكلف نفسه قراءة ما هو منقوش على أسوارها العالية. مع منتصف الستينيات وحتى ربما منتصف الثمانينيات، اجتاح إعصار القصة القصيرة إلى جانب الشعر أقطار الوطن العربي، وحينها كانت الرواية خانسة كامنة. ولذا كان حلم كل كاتب شاب في تلك الفترة أن يكون شاعراً أو قصاصاً يُصدر مجموعة قصصية، خاصة وقلة دور النشر وقتها، وصعوبة النشر قياساً بما هو حادث اليوم. عطفاً على طبيعة تلك المرحلة من التاريخ العربي، بحضور الأحزاب السياسية والشعارات العربية العريضة عالية النبرة: اليسارية والبعثية والقومية والإسلامية، فإن بيان أي حزب سياسي كان يمكن أن يُنشر بقصيدة أو قصة قصيرة. وهذا ما لوّن الكثير من القص العربي، طوال تلك المرحلة، بمسحة الطرح السياسي، ولفتْ نظر القارئ وتوجيه انتباهه لمقولات بعينها. وهو ذاته ما أسقط لاحقاً مجموعة كبيرة من الأسماء التي كانت تكتب القصة القصيرة كمنشور سياسي وأبقى على مجموعة أخرى مبدعة، تتعامل مع القصة بوصفها إبداعاً إنسانياً بعيداً عن أي تحزّب، مع أنه يحمل فكر ووعي الكاتب ورؤيته وموقفه تجاه قضايا للعالم. كتبت ولم أزل أكتب مقتنعاً برسالة الفن السامية، وأن الكتابة عمل مقدّس، لأنه يمسّ ويؤثر في وعي الإنسان وحياته. وكتبت ولم أزل أكتب بوعي الوقوف إلى جانب قضايا الإنسان العادلة، وإلى جانب الحرية وحقوق المرأة والطفل، ولأنني أنتمي وأعيش في وطني الكويت، فإنني محاط بالعمالة الوافدة العربية والأجنبية، ولذا تحتل حياتها مساحة وافرة من كتاباتي بتعاطفي مع قضاياها العادلة.
مشاركة :