فضاءات الحوار سلاح المجتمعات لتجفيف منابع التطرف

  • 4/19/2019
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

منذ أن غزت نزعات التطرف عدة مجتمعات عربية في العشرية الأخيرة، تعددت الدراسات والبحوث المشخصة لأصل الداء والباحثة عن مسارات التوقي منه لقطع جذور التعصب وتجفيف منابع التطرف لا فقط عبر مقاربات أمنية أو عسكرية بل بمقاربات تنادي بتركيز فضاءات الحوار كأحد أهم الأسلحة التي تلقى مسؤولية توفيرها على المجتمعات لا الأفراد. ورأى الباحث التونسي منير السعيداني في دراسته التي قدم بها كتاب “التعصب والتطرف والإرهاب.. مقاربات في المجتمع والدولة والدين” أن من بين نتائج ما تشهده الدول العربية منذ نهايات 2010 استحالاتٌ عميقة وسريعة في العلاقات بين مختلف المؤسّسات والبنى والكيانات الاجتماعية. وأكد أن ذلك أدى، في أحيان كثيرة، إلى إعادة صياغة الصلات الاجتماعية بين الأفراد وذواتهم، وبين الأفراد والأفراد، وبين هؤلاء والمجموعات، وفي ما بين المجموعات، وبين المجموعات والمؤسسات. ويعني ذلك في ما يعنيه أن العلاقات بين الدولة والمجتمع الأهلي والمجتمع المدني مسّها التحوير عميقا إلى هذا الحد أو ذاك. وأضاف في الكتاب الذي شاركت فيه مجموعة من الباحثين العرب؛ “عبد الكريم أبواللوز، محمد الأشهب، فاتن المبارك، المنجي حامد، عبدالله ياسين، بشرى زكاغ” والصادر عن مؤسسة “مؤمنون بلا حدود” أن في كل تلك المكامن مكونات مجتمعات غير مُدَوْلَنِة العلاقات والآليات وأنماط الاشتغال، بما يجعلها أهلية مصنوعة من نسيج صلات أشكال الانتظام الاجتماعي التقليدية، أو مدنية مصنوعة من نسيج الانتظام الجمعوي حرّ الانتساب والنشاط والحركة. وفي هذا تعقيدات كثيرة منها ما يتصل بإعادة تشكيل علاقة الدّولة العربية المعاصرة. وبالنظر إلى العمق التاريخي، الذي يمكن أن تستند إليه مراجعات المفاهيم ذات الصلة تاريخياً واجتماعيا، يتوجب النظر إلى هذه المجتمعات غير مدولنة العلاقات والآليات وأنماط اشتغالها في تجسداتها المحلية والوطنية والإقليمية “المنظمات الخيرية الإسلامية مثلا”، وكذا الدولية (المنظمات الإنسانية الدولية) من ناحية، وفي قدراتها التنظيمية “ومنها التشبيكية” واللوجستية والمالية “ومنها التشغيلية” والرقابية “ومنها التمكينية” والإعلامية والعائدة إلى اللوبيات النافذة “ومنها ما يتصل بتشكيل ملامح قيادات المعارضة المدنية” من ناحية ثانية، وفي علاقاتها بالأفراد والمجموعات والأجهزة والمؤسسات من ناحية ثالثة.وتساءل السعيداني ما معنى أن يكون المرء مؤمنا؟ وقال “على الرغم ممّا قد يتبادر إلى الذهن من انحصاره في المجال الديني-الاعتقادي، يمتدّ عميقا إلى أغوار اجتماعية وجذور تاريخية وأبعاد فكرية ثقافية، ليس العلم ولا المعرفة من خارجها. ولكن يجدر التمييز بين المعتقدات ذات الطبيعة الوصفية-التفسيرية، التي تتكون طياتها من المعارف والعلوم والأساطير مثلا، ويُحتكم فيها إلى مقاييس الخطأ والصواب والمطابقة من جهة، والمعتقدات المعيارية التي تحتوي في طياتها على القيم والعقائد مثلا، ويُحتكم فيها إلى معالم الرّشد والغيّ وصولا إلى مكاييل الولاء والبراء ومقاساتها، من جهة ثانية. ويتكون الكتاب من سبع دراسات تكون كلّ واحدة منها فصلا تجمعها ثلاثة أقسام: القسم الأول حول طبيعة نظرية مفهومية، في حين يهتم القسم الثاني بكيفيات الصناعة الاجتماعية للتعصب والتطرف والعنف في مجريات الحياة اليومية ضمن المجتمعات المحلية. أما القسم الثالث ففيه تركيز على العوالم الشبكية الاتصالية للتجنيد المتطرف وكيفيات صناعة الطوائف الافتراضية. ووفقا لقراءة السعيداني لاستنتاجات الدراسات التي شملها الكتاب، أكد “أنّ في أصل التطرف يكمن التعصب لفكرة ما، وعدم الاستعداد للتحاور فيها أو مناقشتها، أو النظر في ما يمكن أن يكون معدلا لها. في هذا المعنى يكون التطرف تتويجا عمليا وفعليا لجملة المسارات التي تنبع من التعصب الأصلي. تلك مسارات شخصية في معناها الذاتي الشخصي، ولكنها مسارات اجتماعية ثقافية في معناها الجماعي”. ويؤكد أن انعدام أو نقص فضاءات الحوار، الذي يمكن أن يعدل التعصب ويجفف منابعه، ليس مسؤولية الأفراد بوصفهم أفرادا، بل هي مسؤولية المجتمعات كونها تضم مجموع مؤسسات تربوية وتعليمية وصانعة للأفكار. ولذلك يمكن القول إن التعصب، الذي يكمن في أصل التطرف، هو صناعة اجتماعية صرف، هي التي تقولب الأفراد فتجعل منهم متطرفين، وإن كنا نعود إلى مسؤولية الأفراد لاحقا. كيف يكون التعصب صناعة اجتماعية؟ ورأى أن الأصل في المجتمعات أنها تتكون من أفراد ومجموعات وجماعات متباينة متنوعة متخالفة، ولذلك فإن كل مجتمع متعدد ثقافيا بالضرورة. ويكون التعدد على أساس التوجهات والرؤى والأوضاع الاجتماعية والمسارات التكوينية التربوية ومجالات العيش وأنماطه، ويستوجب ذلك ما يردد قوله الفلاسفة والمفكرون من أن الإنسان مدني بالطبع، وهي الفكرة التي رددها ابن خلدون مثلا بعد الفارابي وبعد أفلاطون. ويشير إلى أن الطبيعة المدنية تعني الحاجة إلى التعاون، وهو ما لا يكون إلا بنقيض التعصب، أي الانفتاح. إذا، الأصل في الحياة الاجتماعية، بما هي مساحة لتبادل الرؤى والأفكار وجولان المعتقدات بما في ذلك المعتقدات الإيمانية، هو التنوع المنفتح. وعادة، يترافق في ذلك الثقافي والمعرفي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي. والمهم لدى السعيداني أن مثل هذه المجتمعات تبني، في سياق ازدهارها متعدّد الأوجه والمستويات، مؤسسات ترعى المناقشات العامة والتبادل الفكري والمجادلات المفتوحة. وليس صحيحا أن ما يعبر عنه بالمجال العمومي حكر تاريخي وثقافي على المجتمعات الرأسمالية الأوروبية. فتواريخ الحضارات التي تسمى ما قبل كولمبية والعربية والإسلامية غير العربية والأفريقية … إلخ تشهد على قدرتها على تنظيم المناقشات العامة في الجوامع والمدارس ومؤسسات المناظرة والمهرجانات الثقافية والأشكال الفنية وبنى المعتقدات، فضلا عن الكتابات والمناظرات وأنظمة التعليم العمومي والتربية الجيلية المتعددة.

مشاركة :