؟ - ولدت في بداية السبعينيات الهجرية من القرن الماضي، لأبوين تزوجا بالصدفة، فكنت الابن البكر لهما رحمهما الله، فالأب كان ابناً لأسرة إقطاعية كبيرة تملك الأرض، والأم كانت البنت الوحيدة لأسرة ونافذة بالعرف القبلي، كانت جدتي لأبي، وهي سيدة حكيمة لها دور كبير في حياتي، امرأة من بيت علمٍ، قد باعت حصاد المزرعة إلى أسرة أمي، وكانت تضع داخل أكياس الحب، نقوداً من العربي والفرانسي، العملة التي كانت متداولة في ذلك الزمن، ولم تكتشف أن ثروتها ذهبت، وانتقلت في الأكياس التي باعتها إلا بعد فترة، فذهبت إلى عائلة أمي، وقالت كلمة مؤثرة، بقيت تتردد بين الناس: «النقود في رأس فاطمة، لتكون عروساً لسعيد!». ويبدو أن جدي لأمي راقت له الفكرة، فكانت أمي فاطمة بنت أحمد عروساً لأبي قبل نهاية موسم الحصاد، وكنت الابن البكر المدلل بين عائلتين، ولكني شاركت في الأعمال السائدة حينها كالزراعة والحصاد والرعي، لأن أبي كان يعيش في مكة، ويمتلك مقهى مع أحد أخواله، أهداني بندقية صيد في طفولتي، وكنت أتمنى لو كانت علبة تشكيل لأرسم بها، لكن جدتي مليحة بنت عبد الله الفقيه، كانت معلمتي الأولى وسيدة الحكايات كل ليلة، حرضتني كي أستعير من مكتبة مدرسة القرية، كتب الشعر والقصص كسيرة بني هلال، وسيف بن ذي يزن وغيرها من القصص، لم تطل بي الحياة في القرية بعد موت والدي، فأصبحت مضطراً بعد الابتدائية للرحيل، فسافرت مع خالي عبدالله إلى الرياض، لأن المتوسطة في بلجرشي تبعد ثلاثة كيلو مترات تقريباً عن قريتي العسلة. r ودعنا معرض الكتاب.. ما أجمل ما فيه؟ - كنا نسافر إلى العواصم العربية لحضور معارض الكتاب، وتبهرنا الحشود والفعاليات التي تقام ونحضرها، ونعود بغلة مما نرغب من الكتب، يصادر الرقيب أكثرها ومع ذلك نشعر بالانتشاء، الآن بيننا يقام أحد أهم معارض الكتاب، ونشهد إقبالاً كبيراً عليه ويشكل تظاهرة مبهجة، وقد يكون هذا الإقبال هو السمة البارزة مع أني، لم أزره في هذا العام إلا مرتين، لكني فرحت بلقاء كثير من الأصدقاء القادمين من كل جهات الوطن، وربما أن أجمل ما فيه أنك لم تعدّ، تشاهد تلك الوجوه التي تمارس وصايتها على الناس. r ماذا أخذت من القرية حين دخلت المدينة؟ - أخذت شخوص مجموعتي الأولى (البديل) وشخوص وفضاء روايتي الأولى (ريحانة) أيضاً، بأصواتهم وسماتهم وهمومهم وطموحاتهم وأوجاعهم وأفراحهم، كنت مضطراً أن أنقلهم على الورق، لأني انتقلت إلى المدينة في عمرٍ مبكر، وقد تطبعت بحياة القرية إلى درجة، أني كنت أجد في كل فعلٍ مغاير، لما أعرفه مقارنة بحياة القرية في تلك المرحلة، القرية علمتني الكثير مما أظن، أنه ما زال لصيقاً بي إلى الآن، علمتني الصفاء والطيبة والمحبة والتسامح، علمتني التعاون والمروءة بين الناس في الحقول والبيوت. r ماذا سرقت منك المدينة؟ - لم تسرق المدينة مني شيئاً، وأجد قسوة في مفردة سرقة، فطابع المدن لدينا ما زال يتمثل بطابع القرى، وممكن أن تجد مدينة كالرياض في ثمانينيات القرن الماضي، تحمل مسميات وأحياء تنتمي إلى شرائح بشرية معينة، وتلاحظ تمثلها إلى مناطق بذاتها، ويتشكل سكانها من تلك الشرائح والمناطق، فينتقلون بعاداتهم وتقاليدهم القروية إلى المدينة، وربما نلحظ هذه الخاصية في كل مدننا إلى وقتٍ قريب. المدينة أضافت لي ولم تسرقني، فقد تربيت وتعلمت في المدينة وتشكلت شخصيتي، وانتبهت مبكراً إلى أن الرواية هي بنت المدينة، ولذلك فقد تماهيت معها بعشقٍ، ففتحت لي مغاليق أسرارها، وتنقلت في كل مواقع العمل، وتمددت معها في كل أفيائها، وعشت مع تحولات مدينة شاسعة كالرياض، وكتبتها روائياً في أكثر من عمل روائي. r لماذا يكتب الفنانون في المطارات والموانئ، هل السفر محرض على الكتابة؟ - الرحيل موحٍ في حد ذاته، والسفر مفردة شاعرية مغرية، ومفردة السفر بذاتها وردت لوحدها، أو مرادفة مع غيرها كعنوان أكثر من مرة في نصوصي، وأذكر منها: ارتحالات الروح والجسد في فصول روايتي الثانية (أواني الورد)، أما موضوع السفر فهو حكاية شاسعة ومتكررة ومتنوعة معي ومع غيري، وهناك أعمالاً محلية وعربية وعالمية، تناولت السفر من جهات وحالات متنوعة، ولكون محطات السفر هي المكان المناسب للكتابة، فقد تكون الحالات النفسية المحتشدة، وحركة الناس ورغبتهم للتغير محرضاً للكتابة. r متى نشر أول عمل لك، وكيف كانت مشاعرك؟ - البديل، أول مجموعة قصصية تمت طباعتها، لكني فقدت قبلها، أو أهملت وضاع مني ما يوازي أكثر من مجموعة، وطبعت هذه المجموعة خوفاً من الجنون، ورغبة في مواجهة شبح الموت، أصوات هذه المجموعة كانت تنازعني، وكنت أحلم بهم وأحادثهم في كل وقت، ولم يكن لي من مخرج إلا الكتابة، أتداوى بها وأفرغ شحنات المشاعر المحتشدة. كان واضحاً أن نصوص هذه المجموعة، فلتت مني ولم أستطع السيطرة على النصوص، مما يشي بفضاء روائي شاسع يعتمل داخلي،، كنت أعرف هذا جيداً، لكني أصغيت لنصائح من أثق بهم، فألتفت إلى الفضاء الروائي، ووجدت فيه ما يغريني، ويرضي شغفي الكتابي، ولم أصدر إلا مجموعة قصصية واحدة مرة أخرى، هي (قالت فجرها) في مقابل تسع روايات، وأكثر من مخطوطة روائية جاهزة تنتظر الطبع. r ما أسوأ ما في المعرض؟ - ربما افتقاد المعرض لفعاليات ثقافية ذات قيمة رفيعة، تعد من مثالب معرض الرياض للكتاب، صحيح هناك فعاليات لكنها ليست مقنعة، ومجرد أداء واجب، وعمل للجنة موظفين ترتجي السلامة، والمؤكد أن الثقافة ينتجها المثقف وليس الموظف، معرض بحجم معرض الرياض للكتاب، يحتاج إلى فعاليات وحراك ثقافي، يليق بحجم وطن كالمملكة العربية السعودية، ويليق بالرؤية التي نتطلع أن تكون الثقافة الناعمة في حجمها، الحراك الثقافي لم يعد كما كان في نهاية القرن الماضي، حركة الإنتاج والنشر واسعة كقوة شرائية اقتصادية، لكننا بحاجة إلى أمسيات ثقافية رفيعة ومتنوعة في كل الأجناس الأدبية والفكرية، وربما نرى في الأعوام القادمة ما يبهج، حينما تتحول إدارة المعرض إلى وزارة الثقافة. r أهم ثلاثة عناوين حرصت على شرائها؟ - لم أشتر كتباً كثيرة، فمكتبتي زاخرة، ولم أعد بذلك النهم القرائي، كنت حريصاً على كتابٍ واحدٍ (الذات عينها كآخر – للفيلسوف الفرنسي بول ريكور) ومع ذلك لم أجده، وحصلت على كثير من الروايات والدواوين الشعرية كهدايا من الأصدقاء ودور النشر، فالنت والمكتبات الإلكترونية، صارت تقوم باللازم. r كيف بدأت علاقتك بالقراءة؟ - بدأت مبكرة جداً، فمن مكتبة مدرسة القرية إلى مكتبتي خالي عبد الله بالرياض، فقد وجدت في مكتبته في سن مبكرة، ما يمكن أن يرضي شغفي في ذلك الزمان، وجدت جواهر الأدب، والمنفلوطي، وإحسان عبد القدوس، والقصيمي، وأحمد أمين، ويوسف السباعي، ونجيب محفوظ، وكتباً أخرى كثيرة جداً، كنت أقتل الغربة في داخلي بالقراءة، لم يكن يسمح لي بالخروج إلى الشارع كثيراً، وليس لي أصدقاء غير زملاء الدراسة، والرياض حينها كانت تفتقر لكل مباهج الحياة، فكنت ألوذ بالقراءة وحدها كمتعة، لأني وجدت فيها فضاء آخر، يعوضني عن فضاء القرية الأكثر انفتاحاً وتسامحاً، وكأني من جديد ولدت في مكتبة. r هل تؤمن بالقول المأثور.. القراءة وقود الكتابة؟ - طبعاً.. الثقافة تراكمية، ويقال إن المنتج الثقافي، هو تدوير لما قبله بإضافة عناصر جديد المعاصر، بمعنى أنك تكتب وتنتج ما هضمته من قراءاتك ومعارفك المتنوعة، وحتماً كاتب لا يقرأ، سيتوقف في محطة لن يغادرها، فالكتابة كائن حي، لا بد من تغذيتها بمعارف متنوعة. r هل ترى انحسار المد الروائي، أم إنه ما زال نشطاً؟ - الرواية جنس أدبي شمولي، بمعنى أنه يدخل في نسيجها كل الأجناس الأدبية الأخرى، بما في ذلك سيد الفنون الشعر، الرواية تستوعب اليومي والتاريخي والسياسي والديني والفلكلوري، فلا بد أن يظل هذا الجنس الأدبي حياً، وقد أحدث طفرة في مشهدنا الثقافي، لكونه آخر الأجناس الأدبية التي حضرت متأخرة، وقد كانت محاصرة بفعل آفق مجتمعي ضيق، يخاف كشف المستور الذي تقوم به الرواية. وشهدت الرواية المحلية، حضوراً مبهجاً عربياً وعالمياً، ففازت بالجوائز وترجمت إلى لغات أخرى، لأنها قدمت مجتمعات يكتنفها الغموض في نظر الآخر، الرواية هي أم الفنون الأخرى كالمسرح والسينما، وهي الركيزة الأولى لدراسة المجتمعات، ونرى إقبالاً هائلاً لدراستها في الجامعات المحلية والعربية، وهذا شيء يدعو للفخر والتميز كتابة وإنتاجاً في المستقبل، وحتماً لا بد أن يصيب هذه الغزارة الإنتاجية شيء من الضعف، لأن كتابة الرواية صارت هدفاً لكل الشباب من الجنسين، ولكني لا أخاف من هذا الوهن فالزمن كفيل بالفرز، ولا مانع أن يكتب الناس فبلادنا قارة شاسعة، تزخر بثقافات متنوعة وبيئات ثرية، لا بد للرواية أن تكشفها إلى جانب ما نشهده من تحولات هائلة. r كيف ترى فكرة النشر المشترك بين الأندية الأدبية ودور النشر العربية وهل حققت انتشاراً للمؤلف السعودي؟ - سؤال مهم جداً، وممكن النظر له من أكثر من زاوية، فدور النشر العربية لعبت دوراً مهماً في نشر الثقافة المحلية قبل ارتباطها بالأندية الأدبية السعودية، وتنظر للسوق السعودية كأهم سوق تسويقي، وللمنتج الثقافي السعودي كسلعة رائجة وقد يكون حالياً ارتباطها اقتصادياً واسعاً بالدرجة الأولى، والأندية الأدبية في ارتباطها بدور النشر العربية، تلعب في الفترة الأخيرة دور (الفلترة) في ما ينشر، وبلا شك هي خطوة كانت ضرورية في مرحلتها، لكن السؤال الذي يفرض نفسه إلى متى ستستمر؟، لا بد من قيام هيئة عامة للكتاب، كما هو معمول به في بلدان عربية كثيرة، وهنا – يمكن اصطياد عدة عصافير في خطوة واحدة. r ما استقراؤك للإستراتيجية الثقافية التي تم إعلانها؟ - أحلم أن تكون على قدر الطموحات، ويستفاد من تجارب المرحلة الماضية، وأهم شيء أن ينخرط المثقف في المشاركة في تنفيذ هذه الإستراتيجية، ولا تبقى تحت وصاية موظف لا يعنيه سوى الانتداب وخارج الدوام! r متى كان الخروج لك عن النص؟ - أنا دائم الخروج عن النص، لكن بمفهوم كسر السائد الكتابي. r هل كتبت يوماً على الجدار، وماذا كتبت؟ - لا لم أكتب.. لكني كتبت شيئاً في روايتي القادمة كلاماً بهذا المعنى، كتبت: - وأنا أمشي في الشارع، قرأت عبارة مكتوبة على جدار، تقول العبارة: - سارة أنا عمار! - تصدق حزنت، وتعاطفت مع عمار، ما أدري ليه..؟؟ r هل قلبت الطاولة يوماً، أو كان هناك من قلبها عليك؟ - سؤال استفزازي، ولكنه حدث، ودعني أكون معك صريحاً، فقد حدث معي مثل هذا الموقف كثيراً، وإحدى المرات في هذه المجلة البهية، وقد عملت بها فترة قليلة في التسعينيات!! r القرارات الصعبة في الحياة هل هي القرارات الخاصة؟ - ليس بالضرورة، ولكن القرارات الخاصة تظهر نتائجها على الإنسان ذاته، ولا بد أن يتحمل نتائجها. r هل مررت بفترة الوقوف ضد التيار؟، أم غامرت بالسباحة معه؟ - عشت كلا الحالتين، وهي تجارب لا بد أن تحدث، المهم أن تخرج منها بفوائد. r ما الحلم الذي لا تتنازل عنه؟ - ما دام حلماً، فسيتحقق ولو طال الزمن، وأحلامي لا تعد ولا تحصى! r ما الخطأ الذي تود اقترافه؟ - وهل تسمح لي بهذا البوح؟، خطيئتي قدستها وعشقتها وحسبتها ذنباً، دعوت الله منها لا أتوب، أمعنت دفء غوايتي حتى صحوت، وليتني لم أصحّ بعد الصحو متّ.
مشاركة :