إنَّ المزية التي يتمتع بها الناقد والمفكر السعوديّ البروفيسور معجب الزهرانيّ تأتي من خلال مرجعيته الفرانكفونية النقدية، ما يجعله يفترق عن عددٍ كبيرٍ من النقاد الخليجيين ذوي المرجعية الأنكلو سكسونية المتحكمة في كتاباتهم ومشاريعهم الفكرية والنقدية، هكذا فإن الزهرانيّ هو من وجهة نظري أول ناقد خليجي يصدر عن مرجعية نقدية فرانكفونية وباشتغالات عميقة جدًا، وله الريادة الاستثنائية في ذلك. لقد اشتغل معجب الزهرانيّ بعمقٍ وشغفٍ شديد على مدى ما يقارب الثلاثة عقود على ترسيخ تلك الخلفية المرجعية الفرانكفونية تنظيرًا وتطبيقًا بحكم دراساته العليا في جامعة السوربون وقضائه في فرنسا سنواتٍ طويلةً صبغته بالروح والصبغة الفرنسية الثقافية الفكرية. ولعلَّ هذا ماجعله يميل إلى حوارية ميخائيل باختين وتتبع أشكال تلقيها في السياق العربيّ. يقول الزهرانيّ: «الهدف الأسمى لأيّ فكر ولأيّ معرفة ولأيّ إبداع هو تنمية فكر الحوار وأخلاقيات الحوار ولغة المنتمين إلى المجتمع الواحد. الحوار حق لكلّ أحد عند كل أحد. والوعي به نظرًا وعملاً، وهو ما يغني الثقافة ويفتح أمامها أفق التجدّد والتطور الكميّ والنوعيّ. لا غرابة أن تنتشر الدوغمائيات (الأفكار النمطية الصلبة الجامدة)، وتهيمن في المجتمعات المتخلفة حيث يتحول كلّ اختلاف إلى شذوذ يتطلب العلاج أو إلى خطر يستدعي المجابهة».إنَّ ميخائيل باختين يعدُ من أهم منظري الخطاب الروائيّ ونقاده في القرن العشرين، بل هو أهم منظري الأدب عمومًا كما ذهب إلى ذلك تزفتان تودوروف. يقول الزهراني» إن أطروحات باختين بصدد ظاهرة «الحوارية» التي تحكم العلاقات بين التعبيرات والنصوص والخطابات مثّلت «قطيعة معرفية» في ذلك السياق النقدي، وتطوَّر عنها تيار نقدي كامل هو ما يعرف اليوم بـ «نظرية التناص»، أو «تداخل النصوص Intertextuality التي دشنتها جوليا كريستيفا، ووجدت بلورتها الدقيقة نظريا وتطبيقيا في كتابات «جيرار جينيت». إنَّ هذه الريادة الإبداعية النقدية لحوارية باختين هي التي جذبت الزهراني، وهو يتساءلُ عن سبب عدم تأثر النقد الروائيّ العربيّ بهذه الحوارية؛ فهذا التلقي المحدود والتفاعل الهش موضع الناقد العربيّ وإنجازاته الفردية في إطار محدود في سياق الأنساق الثقافية التقليدية كما يرى الزهرانيّ. ولهذا انحصر تلقي حوارية باختين عربيا في ثلاثة أشكال هي: التلقي المعرفيّ - الترويجيّ والتلقي الأيديولوجي التوظيفيّ، وقلة من النقاد العرب هم الذين اشتغلوا على التلقي النقدي الحواري بتفاوت مثل محمد برادة وحميد لحمداني ومحمد مفتاح. ظلَّ معجب الزهراني طوال سنوات عدة من اشتغاله النقدي بعيدًا عن تأسيس أي مشروع نقدي ربَّما بسبب رغبته في التمتع بالحريات الفكرية بعيدًا عن الالتزام بصرامة تأسيس مثل هذا المشروع. وقد اعترف بأنَّ ما قام به يأخذ نمط المحاولات المتنوعة الموضوعات والمقتربات.يقول «لم أفكر في «مشروع نقدي»، وحسنًا فعلت فيما أحسب؛ فهذا النمط من العمل يعبر عن طموح قلَّ من يمتلك أدواته (محمد مفتاح هو الوحيد الذي لفت نظري وأثار إعجابي، من قبل أن أسعد بمعرفته وصداقته». لعلَّ هذا ما يفسر لنا مقارباته النقدية المتعددة من تمثيلات الجسد في الرواية العربية إلى الرواية النسائية والخطاب الثقافيّ الجديد إلى جماليات الكتابة ودلالاتها الحوارية في رواية السير الذاتية إلى الآخر - الداخلي ومقامات المرأة بين فكر التوحش ونقائضه إلى خطاب التعقل والأنسنة وصورة المرأة في فكر ابن رشد، كما اشتغل على مقاربات نقدية مقارنة مثل «نحن الآخر - مقاربة لصورتنا في نماذج من الأدب الفرنسي من خلال رؤية موريس تاميزييه لبلاد العرب، الشرق والشرقيون في ديوان «الشرقيات» لفكتور هوجو و«تمثلات الآخر العربي - المسلم في بعض قصص ألبير كامو وميشيل تورنييه» وغيرها. عرفتُ معجب الزهراني والتقيتُ به شخصيا في الحلقة النقاشية النقدية التي نظمتها إدارة الثقافة بوزارة الإعلام البحرينية تكريمًا للناقد السعودي عبدالله الغذَّامي عام 2001. بدا لي الزهراني آنذاك ولا يزال متحمسًا لمشاركات الباحثين الشباب يحثهم على الاستمرار والمواصلة وعدم الانقطاع ويشجعهم على أن يكونوا بذورًا جيدة صالحة لعطاء نقدي مستقبلي. تواصلت لقاءاتي المتقطعة مع الزهراني في ملتقيات نقدية في الباحة والرياض والقاهرة ورغم مرور السنوات إلا أنَّ حماسته النقدية لا تزال مستمرة وتواضعه الشخصي ببساطته لا يزال حاضرًا. وقد لفت انتباهي كذلك ميله إلى الإبداع الروائي في روايته «رقص» في سردياتها المتدفقة التي مكَّنته من الكشف عن فوضاه الجميلة التي تأبى القيود وتهفو إلى الحرية. وللبروفيسور الزهرانيّ اشتغالاته الكبرى في مجال التأسيس، ويتبدَّى هذا التأسيس في بعض المشاريع الثقافية الضخمة جدًا مثل كونه عضوًا مؤسِّسًا في مشروع موسوعة «الأدب الحديث في المملكة العربية السعودية» وهي موسوعة صدرت في عشر مجلدات عام 2004. وتُرجمت مختارات منها إلى الإنجليزية والفرنسية واليابانية والروسية. كما أنَّه محرر المادة الثقافية في الموسوعة الشاملة عن المملكة العربية السعودية التي صدرت عام 2011 في عشرين مجلدًا عن مكتبة الملك عبدالعزيز بالرياض. كما أنَّ الزهراني أسس كرسي غازي القصيبيّ للدراسات التنموية والثقافية بجامعة اليمامة عام 2012. وشرفت بتقديم ورقة نقدية علمية في أعمال الملتقى النقدي الأول لهذا الكرسي المهم جدًا. وبعد سنوات قليلة عُين الزهراني مديرًا عامًا للمعهد العربي بباريس عن استحقاق وجدارة، وبدأ في الاشتغال على تحقيق برامج ثقافية استثنائية تحقق الحوار بين العرب والغرب بعيدًا عن النمطية المألوفة. قبل أشهر قليلة فاجأنا البروفيسور الزهراني بكتابة سيرته الذاتية التي سماها «سيرة الوقت»، نسبة إلى جريدة «الوقت» البحرينية التي شهدت بزوغ مفتتح هذه السيرة الذاتية. وهذه السيرة الذاتية كما ذكر الزهراني في لقائه بأسرة الأدباء والكتاب الأسبوع الماضي تناول فيها مسارات حياته الشخصية والنقدية والفكرية والإبداعية بشفافية وبتعرية تامة للذات، والكتابة بجرأة مطلقة في مساحات سرد الذات. لم أقرأ حتى الآن هذه السيرة الذاتية ولي وقوف عندها فور اقتنائي لها، ولكننا بحاجة بالفعل إلى سرد للذات حقيقي يتجاوز الأقنعة ويتجاوز الكتابات المجازية المموهة لوعي الذات الحقيقي؛ ولذلك تعد عندي السيرة الذاتية من أصعب الأنواع السردية وأعقدها. والزهراني الذي كان بعيدًا بعض الشيء عن المعارك النقدية الكبرى التي شهدت مساجلات كبرى في الملتقيات النقدية والثقافية السعودية دخل في السنوات الأخيرة مساجلاً وبقوة في الحديث عن بعض القضايا، وخاصة في مساجلات تلفزيونية فضائية حادة مع بعض أعداء الحداثة وما بعد الحداثة الفكرية ممن لا يزالون على قيد الحياة، وعلى قيّد الشغف بمثل هذه المساجلات التي تجاوزها الزمن حتى الآن! الوعي الحاد بالذات وبالآخر..الرغبة في التمرد والخلافية بعيدًا عن نمطية الجماعات المقولبة.. الرغبة في الانعتاق والتحرر من أسر الأكاديميا وأسر الكتابات النقدية ذات المنطق العلمي الصارم جدًا في أدواته جميعها أمور باتت تميّز البروفيسور الزهراني في السنوات الأخيرة، وهكذا يعود الزهراني إلى ذاته الحقيقية التي عبّر عنها في حواراته الأخيرة بمنتهى الشفافية والتحرّر الفكري. dheyaalkaabi@gmail.com أستاذة السرديات والنقد الأدبيّ الحديث المساعد، كلية الآداب، جامعة البحرين.
مشاركة :