يأتي تصريح وزير الشؤون الاجتماعية اللبناني ريشار قيوميجيان من قصر بعبدا بعد لقائه مع الرئيس ميشال عون قبل أيام، بأن هناك “مزاريب هدر كثيرة” ليتكامل مع طبيعة حضوره في الساحة السياسية اللبنانية، ومع البداية التي صبغت علاقته مع عون منذ لحظة تشكيل الحكومة الحالية. وقد لا تواجه الحكومات في مختلف دول العالم أوضاعا شبيهة بأوضاع الحكومات اللبنانية، حيث إن ما درج على تسميتها بحكومات “وحدة وطنية” جمعت في صفوفها المكونات السياسية المختلفة من معارضة وموالاة، فضمت كافة القوى السياسية التي يتشكّل منها مجلس النواب، تجد فيها من هو “على الخط” ومن هو يسير “عكس الخط”. ومن بين هؤلاء وجد من أطلق عليه تسمية “الوزير المشاكس” لأنه كان يعبر عن “معارضته” للقرارات الحكومية علنا، وهذه هي الحال في حكومة “إلى العمل” التي يرأسها الرئيس سعد الحريري وتضم قيوميجيان وزير حزب “القوات اللبنانية”، “المشاكس”. لعل السبب المباشر في “المشاكسة” التي يمارسها قيوميجيان هي خلفيته “العسكرية” فهو كان أحد ضباط “فرقة الصدم” التي أنشأها الرئيس الراحل الشيخ بشير الجميل إبان الحرب الأهلية، وقد انخرط في هذه الحرب مثله مثل أقرانه من اللبنانيين الذين كانوا يحاربون “أشقاءهم” في المواطنة، كلٌ حسب رؤيته في تلك المرحلة للوطنية والسيادة والاستقلال. مختبر الحرب الكبير قيوميجيان ظل ينتمي إلى “العسكر” حتى نهاية الحرب الأهلية، مختبرا الحرب التي خاضها حزب “القوات” ضد الجيش اللبناني الذي كان يقوده العماد ميشال عون في حينه، والتي عرفت بحرب “الإلغاء”، ومن ثم “حرب التحرير” التي شنها عون ضد قوات الاحتلال السوري والتي انتهت باقتحام السوريين لقصر بعبدا الرئاسي ونفي عون من لبنان. تلك الواقعة بالذات هي التي دفعت قيوميجيان إلى “مشاكسة” الرئيس ميشال عون في الجلسة الوزارية الأولى بتذكيره بما فعله السوريون به، ما أخرج عون عن طوره ودفعه للرد بقوله “لم أنس ما فعلتموه أنتم بي أيضا”. ولد قيوميجيان في بلدة بطحا في قضاء كسروان محافظة جبل لبنان في العام 1962 وحاز على شهادة الدكتوراه في جراحة الفم وطب الأسنان، من جامعة القديس يوسف ببيروت عام 1984، وحصل على دبلوم دراسات عليا في طب عام الأسنان المتقدم وبيولوجيا الفم، من جامعة ميريلاند في بالتيمور. لكنه تابع تحصيله العلمي، في مجال آخر وحصل على دبلوم دراسات عليا في السياسة الدولية، من معهد السياسة العالمية بواشنطن. تسلم قيوميجيان مسؤوليات عديدة فكان رئيسا لمصلحة طلاب القوات اللبنانية، كما تولى منصب أمين الإعلام في المجلس السياسي لـ”القوات”. ورشّحه حزبه إلى الانتخابات النيابية عن مقعد الأرمن الكاثوليك في دائرة بيروت الأولى، وكان المتحدث الرسمي باسم الحملة الانتخابية للقوات خلال انتخابات العام 2009. ملف النازحين السوريين تولى قيوميجيان في حكومة “إلى العمل” التي شكّلها الرئيس الحريري، حقيبة الشؤون الاجتماعية التي تسلّمها من سلفه؛ “رفيقه” في القوات النائب بيار أبوعاصي، الذي نجح في إقفال ملف الجمعيات “الوهمية” التي كانت “تتناتش” على قضم الميزانية المرصودة للوزارة والتي لا تتجاوز 1 بالمئة من الميزانية العامة للدولة، وهو ما أكّد عليه قيوميجيان أثناء حفل التسلّم والتسليم حيث أكّد متابعته لهذا الملف وإقفال أي جمعية لا تزال عاملة، داعيا اللبنانيين جميعا إلى التوجه إلى مكتبه “شخصيا” لتقديم البلاغات بحق مثل هذه الجمعيات ليُصار إلى إقفالها. ويضع قيوميجيان ملف “العائلات الأكثر فقرا” في لبنان على رأس أولويات عمله، بعدما نجح سلفه في خفض عدد المستفيدين “الوهميين” من هذا الملف من 100 ألف عائلة إلى 44 ألفا، حيث يؤكّد وجوب متابعة التدقيق في هذا الملف لكي يُصار إلى توفير المساعدات لمن يستحقها حقا. وإلى جانب الملف الاجتماعي الذي يعنى به قيوميجيان، وجد نفسه أمام ملف لا يقلّ أهمية بالمعني “السياسي” وهو ملف النازحين السوريين، حيث وجد قيوميجيان نفسه إلى جانب الرئيس الحريري ووزير التربية والتعليم العالي أكرم شهيب في مؤتمر بروكسل الأخير الذي جمع الدول المانحة والمنظمات الدولية التي تموّل البرامج الكثيرة المتعلقة بالنازحين، وقد نجحت الحكومة اللبنانية بتأمين استمرار الدعم الدولي للبنان للاستمرار في إيلاء النازحين السوريين والمجتمعات المضيفة لهم العناية اللازمة والاهتمام المطلوب. وأكّد قيوميجيان في حديث إذاعي على أن “القوات اللبنانية كانت أول من طالب بعودة النازحين إلى سوريا اليوم قبل الغد، ولكن هناك حملة تضليل تحصل حول الموقف الذي اتخذناه وهذه الحملة ليست إلا محاولة لذرّ الرماد في العيون”، متسائلا “لماذا هذا الابتزاز؟ النظام السوري يريد ابتزاز لبنان ويريد عودة النازحين بشروطهم وهذا ما لن نرضى به نحن أقله كقوات لبنانية”. مرحلة اضطهادتمايز حزب “القوات” عن “التيار الوطني الحر” الذي يرأسه وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل الذي يحاول انتهاج مسلك “شعبوي” بالإصرار على إعادة النازحين السوريين إلى بلادهم، وتصوير أن من يتعاطى مع هذا الملف بخلاف هذا الموقف، فإنه يسعى إلى توطين السوريين في لبنان. وأضاف قيوميجيان “هل حين عاد 150 ألف نازح سوري من لبنان إلى بلاده، اعترضت القوات اللبنانية؟ هل حين تمت مفاوضات لفتح معبر نصيب، اعترضت القوات اللبنانية؟ من يفرض الرسوم الطائلة في معبر نصيب ويبتز اللبنانيين؟ من يمنع عودة النازحين ويجبر بعضهم على التجنيد الإجباري والتحقيق معهم واعتقالهم أو إخضاعهم لكي يكونوا موالين لنظامه؟”. وفي خلال مؤتمر حول النازحين السوريين نظّمه “الحزب التقدمي الاشتراكي” فاجأ قيوميجيان الحضور الذي تقدّمه رئيس “الاشتراكي” الوزير والنائب السابق وليد جنبلاط، بثقافته العالية ولهجته الخطابية المتمكنة، وبأنه كان رغم انتمائه التقليدي إلى “الخط اليميني الانعزالي الطائفي”، إذ كان مدمنا على قراءة كتب الزعيم الراحل كمال جنبلاط “اليساري، الاشتراكي العروبي”. يروي قيوميجيان كيف لم يتسن له حضور جنازة والده الذي توفي أثناء وجوده خارج لبنان، خصوصا بعد أن تم تداول صورة له وهو يبكي عند قبر والده بعد تعيينه وزيرا في الحكومة الجديدة، حيث إن قيوميجيان غادر لبنان إثر مرحلة الاضطهاد والقمع بعد اعتقال رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع في 21 أبريل 1994. واليوم يعتبر قيوميجيان أن “الدخول إلى الحكومة هو بغية العمل والإنتاج لا تمرير الوقت، ويكفي اللبنانيين انتظارهم تشكيلها 9 أشهر”. يقول “أصبح مشهودا لـ’القوات اللبنانية’ ووزرائها بأنهم يتعاطون بشفافية، منطق، منهج، عقلانية وتحت سقف القانون. فيا ليت الجميع يلتزم بهذه المسلمات، المشكلة في كيفية التعاطي بالشأن العام وإدارة الدولة وبذهنية بعض من يديرها. هدفنا بناء دولة القانون والعمل وفق ما تفرضه الأنظمة والقوانين المرعية على الأجراء، بالإضافة إلى أخلاقياتنا وقيمنا كقوات لبنانية. بالتالي متى كان الدستور والقوانين هي الفيصل يجب ألّا تقع المناكفات. من يلاقينا في العمل وفق هذا المنطق سنلاقيه طبعا”. حزب الله بمواجهة المسيحيينتصريح الوزير باسيل في ذكرى تفاهم “التيار الوطني الحر” و”حزب الله” بأنه لولا الحزب لما كان الرئيس ميشال عون رئيسا للجمهورية ولولا التيار لما صمد الحزب في وجه إسرائيل، يرد عليه قيوميجيان بالقول إنه “لو لم يكن هناك دعم مسيحي لانتخاب الرئيس عون لكنا ما زلنا في الفراغ حتى اليوم، رغم دعم حزب الله للرئيس ميشال عون الذي دام طيلة فترة الفراغ التي امتدت لسنتين ونصف السنة. فلو لم تؤمن ‘القوات اللبنانية’ الضمانة الكافية له لم انتخب رئيسا”. وحسب قيوميجيان فإن القول بأن “حزب الله” انتصر على إسرائيل بسبب دعم “التيار الوطني الحر” يبقى موضع استفهام. فالتيار أمن منذ العام 2005 الغطاء المسيحي للحزب للمزيد من الهيمنة في الداخل. و”حزب الله” سائر في مشروعه مع أو من دون “التيار”. واللبنانيون جميعا، كما يقول قيوميجيان، أمنوا الغطاء للحزب ضد العدو الإسرائيلي. وآن الأوان أن يخف غطاء “التيار” للحزب كي يفرض نفوذه في الداخل لمصلحة الغطاء للدولة كي تفرض نفوذها في الداخل. وبعد تشكيل حكومة “إلى العمل” وتسمية حزب “القوات” لوزرائه فيها، توقع الكثيرون ألّا تحل تسمية وزيرة الدولة لشؤون التنمية الإدارية مي شدياق بردا وسلاما على قلب فريق “التيار الوطني الحر” وحليفه “حزب الله”، غير أن الواضح أن أداء قيوميجيان هو الذي وقع كالصاعقة على هذا الفريق، حيث إنه لا يتوانى عن التعبير وبطريقة لافتة عن معارضته للسياسات “الشعبوية” لـ”التيار” ورئيسه الذي يحاول كسب شعبيته على حساب من يمثله قيوميجيان، ومن هنا فإن تسميته بالوزير “المشاكس” تبدو الأكثر واقعية بالنسبة لباسيل وحلفائه، فهل سيستمر وزير الشؤون الاجتماعية في ممارسة “هوايته” أم أن “التضامن الوزاري” سيفرض نفسه على أدائه؟
مشاركة :