لن يستطيع الإنسان، مهما كلف نفسه من الجهد، أن يفهم الحياة ويسبر أغوارها ما لم يكن مدعوما بحصيلة ثقافية تعتمد على القراءة الفاحصة والتحليل العميق والتجارب الحقيقية، وهي من أهم المغامرات وإن لم تكن القفزات التي يتجاوز بها عقدة «الأنا» العليا ليصل إلى الآخر ويستوعب محتواه الذي تبنى عليها مواقفه. متى أدركنا أننا بهذا المعنى نحرّر أنفسنا من تبعية الثقافة السطحية أو الرائجة، تلك التي تشكل بها وعينا وسيقت إليه عقولنا ردحا من الزمن، حتى وجدنا أنفسنا محاطين بسياج حديدي من الممنوعات، ثم لم تلبث أن انفجرت ثقافة الأغلبية، أو لنقل القطيع، متخذة لها أشكالا متنوعة يجمعها لغة متفردة بالمشهد وهي لغة «الإرهاب». جيل الثمانينات لن ينسى تلك العبارات الصارمة الموجهة كـ«اقرأ ولا تقرأ» و«افهم ولا تفهم»، حتى بتنا تقريبا معزولين تماما عن التفاعل الثقافي العالمي الحقيقي، العالم الذي يتأثر بعضه ببعض بنسب متفاوت، حتى أحداث الـ11 من سبتمبر التي نشأت من داخل ذاك السياج الحديدي وما تلاها من تداعيات، يطرح حتى اليوم سؤالا مهما لم أجد حتى اليوم من يستطيع الإجابة عليه بوضوح ودقة حتى نستطيع من خلالها فهم هويتنا. اليوم أصبحت لدينا وزارة ثقافة، جاءت في وقت متأخر، أي في الوقت الذي بدأ الآخرون يتخلّون عن كل الوزارات ذات القوة الناعمة، مكتفية بتحريك المجتمع المدني من خلال مؤسسات اجتماعية تتبنى جمعيات نوعية، مثلها كل الوزارات المعنية بالتوجيه الثقافي، مكتفية بالوزارات ذات العلاقة بالتنمية الاقتصادية. فالثقافة تحديدا اليوم لا تحتاج إلى وسيط يحدد لها مرجعياتها بهدف إخضاع العقول وتدجينها من أجل نشر أفكار وشعارات لا تنم عن المعنى الحقيقي للثقافة ومغزاها، وإلا عدنا إلى المربع الأول ذي اتجاهات التطرف والإرهاب، فلم تعد الشعوب محكومة وفق سياسات وتصورات جاهزة، كما أن الأفكار والقيم ليست في وئام مع قنوات التوجيه بحسب ما كان يظن، ولم تكن المصدر الأساس لها على رغم التطور الكبير والمذهل في وسائل الاتصال، فقد بات الاعتقاد وإلى وقت قريب أن تصورات الشعوب تعتمد على قنوات التوجيه المسيسة في الغالب، إلا أن الأحداث الأخيرة برهنت ولا تزال على أن الشعوب تتحرك في إطار ما تمليه عليها تصوراتها عن نفسها، ما يمكن أن يلبي احتياجاتها المعرفية والنفسية، فهي الأكثر انعتاقا من السياسات التي تحكمها، لأنها ببساطة ليست بحاجة إلى دكاكين تسويق، فهي لا تخضع إلى قيم السوق الملتبس بلغة العرض والطلب، وهذا سر الثقافة وسحرها، تمتلك طاقة نرجسية خاصة بها، تتحكم في رؤيتها وحكمها على الأشياء، فأي ممارسة هدفها التحجير على مداركهم، أو توجيهها وفق اليات معينة، ستكون كالكتابة على الماء، بمثل ما تحاول الدول الخلاص من ورطة الحرب وتقريب العقول المسكونة بالخوف إلى رحاب الثقافة والوعي، فإننا أيضا مسكونون بالخوف من العودة إلى ثقافة الاقصاء والتحجير والأحزمة الناسفة. كنا قد اطمأننا قليلا إلى انتصارنا على الإرهاب، ليخرج لنا من رحم الغيب شبان يبايعون البغدادي من دون أن يروه، ويقتلون الناس باسمه وتحت راية دولته المزعومة، تحرك مؤشر الهواجس والمخاوف قليلا، فهل هو الخوف من مستقبل مجهول أم أننا نقول تفاؤلا هذه آخر تبعات الهزة الإرهابية التي لا مناص منها؟ من يستطيع أن يفلسف لنا ما يحدث إن لم تكن الثقافة المنفتحة على كل الاحتمالات. كتب بول فوزيل الباحث الأنجلو - أميركي عن الحرب العظمى والضمير الحديث قائلا: «كان لتلك الحرب من الأثر على طرق تفكيرنا ما هو أعظم من أي أثر آخر، بما في ذلك العصر النووي الذي جاء فيما بعد. لذلك، فإن هاجس الحرب هو ضمير المجتمعات والسياسات الديموقراطية انعكست مباشرة على طرق وأساليب تعاملاته مع العالم الآخر، في سباق محموم لكسب نفوذ أوسع وسيطرة يسكنها طعم الاحتلال وتتحدث بلغة الاستعمار، مما ألقى بظلاله على عقول المنتصرين في الدول الديموقراطية والليبيرالية، مما رسخ فكرة التطرف السياسي عندهم التي حفزت ودفعت أقطابا من الدول النامية والساعية للخروج من عنق الزجاجة لفرض تعبئة جماهيرية عامة ومضادة مشحونة بالبغضاء ومقت كل مظاهر الاستحكامات العسكرية المدججة بأنواع من الأسلحة الفتاكة ومن صواريخ عابرة للقارات هدفها ردع أي تحرك مضاد في الوقت المحدد، وعندما ننظر إلى هذه الشعوب المحاربة حتى في لقمة عيشها وإن وصلت إليها فبواسطة طرق معبدة بالمهانة ومرصوفة بالذل ندرك معنى هذا الاستشعار الدائم المشوب بالترقب والحذر الذي دفع ممن عيل صبرهم وتشربوا مبدأ الثأر لاتخاذ مواقف عدائية مضادة، كردود فعل مناهضة لمبدأ الموت وقوفا والاندفاع إليه عنوة». إن محاولة إعادة صياغة الذهنية القتالية التي اتكأت على رصيد ثقافي هائل حفّزت ولا تزال قطاعات كبيرة داخل المجتمعات الإسلامية والعربية لا يمكن التفاهم معها إلا بلغة الحوار الثقافي، وليس الكلامي، بمعنى أن يكون هناك تفاعل حقيقي يترك للمثقفين اختيار شكله وآلياته من خلال بنية مؤسساتية اجتماعية محدد، غير مسحوبة بحبال رسمية ذات أدوات فرز انتقائية عشوائية، تليها محاولة إعادة الثقة المتبادلة بين الأجيال وردم الهوة الماثلة بينها، ومن الأهمية بمكان انتزاع لغة الكراهية للآخر واقصاؤه من حياتنا اليومية، واستحداث برامج تعمل عليها مؤسسات المجتمع المدني، من خلال آليات منفتحة على الآخر. لننتصر على مخلفات الماضي البائس بثقافة أكثر معاصرة، بمثل ما نتزع الإيطاليون من لغة أطفالهم تلك الشعارات التي يرددونها في أناشيدهم إبان خمسينات القرن الماضي، بأن عليهم الطاعة والإيمان والقتال، وكما نجح الألمان في اجتثاث لغة النازيين الذين كانوا يلقنون أطفالهم بأن عليهم أن يفكروا بدمائهم، حتى عبر أحدهم قائلا: «كلما تناهى إلى سمعي كلمة ثقافة أرفع صمام الأمان في مسدسي»، ثم علينا خارج الاطارات الرسمية أن ندرس أنفسنا ونقيمها، ونعيد صياغة أجيالنا وفق عالم أكثر انفتاحا. جاء في بيان لمجموعة من العلماء عقد في اشبيلية سنة 1986: «إن البشر ليسوا مجبولين على العنف، وأنه لا يوجد قطعيا أي دليل علمي يبرهن على أن بني الإنسان يميلون إلى العنف بحكم تكوينهم الخلقي، ولا علاقة للجينات بهذا من قريب أو بعيد. وعليه، فلا يقع اللوم إلا على أنفسنا نحن المخلوقات التي تفكر وتشعر وتتخلق، وما علينا إلا أن نقبل بذلك ونبدله». الثقافة ليست مهرجانات ولا شباك تذاكر بيع، هي عمل عميق ينتزع من ألسنة أطفالنا في مدارسهم السؤال الكريه: «من أنت». almoz2012@hotmail.com @almoziani * كاتب وروائي سعودي.
مشاركة :