من سِمات الناس هنا في الأردن، أنهم يكتنفون الراحلين من قاماتهم، بوصفٍ لائق بتاريخهم. تأبى أخلاقهم غير ذلك وتنفر.أنا في الطريق لبيت العزاء، تتراكض أمام ناظري كل حياة الراحل الحكيم الدكتور عبد اللطيف عربيات وكل ما وَسَمَ به مواقفه الوطنية المهنية المتزنة، فتقفز صورة خالصة النقاء لمثال الشخصية الوطنية الحزبية التربوية التي نريد. على هضاب السلط وبين كروم تلالها، استيقظت عيناه على مشهد القدس مبكّرا، رأى في الأفق الذي يفصل المدينتين، أهداف مدفعية الجيش العربي وبنادق جنوده، وكان فتىً غض الإهاب حين شهد على معارك اللطرون وباب الواد وكفار عصيون وهو يرقب نيرانها من بين الكروم.هو صوت الحكمة وضابط إيقاعها. كان تربوياً تقاسم مع والدي المرحوم أبي نضال ومع فرسان تربويين كبار، واجب التأسيس للمشهد التربوي الوطني، وكان قياديا حزبيا رفيعا يوقن أن الأردن جزء من الأمة التي لا تعترف بتقسيمات سايكس بيكو. لقد هيأ هذا التلاقي، إنضاجا مبكراً لقيادات العمل الحزبي في تجارب الخمسينات وما تلاها.قاد عملا حزبيا في حكومة مضر بدران، ومنح تاريخنا السياسي نموذجا فائق الوطنية في أساليب العمل البرلماني ومفاهيم حكومات الظل وقواعد الشراكة بين حزب الاغلبية والحكومات.قال ما لم يقله غيره، في المضي نحو اتجاه مجدد في أيدولوجية العمل السياسي، لم يكن الدين أداة قياس أساسية إبّان قيادته لحزب جبهة العمل، إنه مثال رفيع لفهم تفاصيل العمل الحزبي الوطني.انتخب وشارك بالحكومة ثم قاطع ثم عاد، إنه شكل السياسي الأردني الذي يؤطّر مناوراته بحدود وطنية ويطلق خيله في الداخل تصهل وتجود لكنها أبدا لا تبيت في نهايات النهار سوى أمام خيمة الوطن.أرسى نقاط التقاء الحركة الأسلامية مع النظام مبكرا، دون شك ولا خجل ولا ارتياب. قال في إحدى أحاديثه أن الهاشميين بطبيعتهم ينتمون للأمة وهذه جزء من هوية الأمة فكرا ووحدة.اليوم، يغيب أحد أعمدة الحكمة، ويترجّل فارس الإعتدال، اليوم يرحل عن السلط أحد رجالها البناة، وأحد نماذج الساسة الذين يدركون الفرق الكبير بين من يصنع وطنا ويبنيه وبين من لا يفعل. لكن حضور ابي سليمان الوطني الكبير، سيبقى بيننا، مدرسة كاملة البهاء في العمل السياسي المغلّف بالوطن أولا وأخيرا، ومن حقّه علينا أن نفتقده، ونفتقد حكمته ووسطيته وأردنيته، ووسط المقاومة الوطنية التي يتقدمها الملك في وجه المشروع الغاشم الجديد، ينبغي أن نستنسخ فكره ومبادئه وثوابته، وأن يسير الساسة على هذا النهج الذي يضع الأمة أولا، ولا محل عنده لإقليمية ضيقة بغيضة.رحمك الله يا أيها العربي الأردني الجميل.
مشاركة :