يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وهو يحدد مسؤوليته عن أموال الأمة: «أنا في أموالكم ككافل اليتيم إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف!» أخذ هذا عن قوله تعالى: (...من كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف...) النساء/6. بهذا الحرج كان الفاروق رضي الله عنه يتحدث عن أموال الأمة، وحرصه الشديد على رعايتها، والضرب بيد عمرية على أيدي من يتخوضون في أموال الأمة. لقد حرم الإسلام كل وسيلة غير مشروعة لكسب المال وإنفاقه، فالله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا في الكسب والإنفاق، ويوم القيامة لن تزول قدما عبد عن الصراط حتى يُسأل سؤالين إجباريين عن المال: من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وفي الإسلام: نعم المال الصالح للرجل الصالح، كما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم). لقد سنَّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) تشريعًا صارمًا كان يحاسب بمقتضاه عماله على الأمصار، فكان رضي الله تعالى عنه يحصي عليهم أموالهم قبل أن يوليهم الإمارة، ثم يحصيها عليهم حين يعزلهم، فإن رأى نموًا غير طبيعي سألهم: من أين لكم هذا؟! وعلى الولاة الذين يجازفون بالعمل لأمير المؤمنين أن يعدوا أنفسهم لهذا السؤال العظيم: من أين لكم هذا؟! وأن تكون إجابتهم حاضرة ومقنعة وإلا تعرضوا لغضبه الشديد، وهم يعلمون كيف يغضب، وكيف لا يفرق في العقوبة بين الناس، فهم أمام الشريعة سواء. لقد سبق رضي الله عنه غيره في حرصه على حماية حقوق الأجيال القادمة، واتخذ قرارًا راشدا لم يسبقه إليه أحد، بل جاء بعده من الحكام من استن بسنته، وسار على نهجه، وذلك حين رفض تقسيم سواد العراق على الجيش وفرض على أهلها الخراج لأنها كانت آخر الفتوح في عهده رضي الله تعالى عنه، ولقد واجه بسبب هذا القرار الفريد والشجاع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم لأنهم كانوا يرون أن من حقهم غنائم الحرب كما جرت العادة في كل الغزوات، ولكن كانت رؤية عمر بن الخطاب البعيدة والثاقبة ترى غير هذا وعندما رأى الصحابة إصرار عمر على موقفه استجابوا لاجتهاده، وها هي الأمم في العصر الحديث تعمل باجتهاد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وتؤمن مستقبل الأجيال القادمة بما تدخره لها من أموال وحقوق. إنها رؤية مستقبلية لم يلتفت إليها أحد قبله رضي الله عنه، ورغم أن بعض الحكام في عصرنا الحاضر قد أخذ بهذه الخطة إلا أن بعضهم قد أساء استغلالها حين حول هذا الحساب إلى رصيد احتياطي يلجأون إليه كلما احتاجوا إلى دعم مالي لمشروع ليس له اعتماد مالي في الميزانية، وكان الحاكم يفعل ذلك من دون أخذ الإذن من أصحاب هذا الحساب أو من يمثلهم. هذه الخطة الحكيمة كانت ضمانا لمستقبل الأجيال القادمة من الأبناء والأحفاد، وكان الخلفاء الراشدون يرون أن كل ما يرد إلى بيت مال المسلمين هو حق لجميع المسلمين، ولكل مسلم في هذا البيت حق معلوم، وفريضة مستحقة لا يمنعهم عنها أحد، وكان الخلفاء يجمعون في بيت مال المسلمين جميع الموارد المالية التي تأتي من الغنائم والخراج والزكاة، ثم يعاد توزيعها على المسلمين كل بحسب نصيبه الذي قرره له أمير المؤمنين أو الحاكم، والأمير واحد من الرعية يأخذ نفس النصيب لا يتميز عليهم في النوع أو الكم، وعندما وقف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يومًا يخطب الناس وقال للناس: أيها الناس اسمعوا وأطيعوا، وقف سلمان الفارسي. وقال: لا نسمع ولا نطيع حتى تخبرنا من أين لك هذا الثوب الطويل وأنت أخذت نفس نصيبنا! قال عمر لابنه عبدالله: قم يا عبدالله وأخبرهم من أين لي هذا الثوب. قال عبدالله ابن عمر ابن الخطاب: لما رأيت نصيب أمير المؤمنين لا يكفيه أعطيته نصيبي، عندها قال سلمان الفارسي:الآن نسمع ونطيع!. إنه بيت مال المسلمين، وليس بيت مال الحاكم أو السلطة المتنفذة، ولكل مسلم الحق في أمواله وما يرد إليه من موارد، وما الحاكم أو ولي الأمر إلا واحد من الرعية إلا أنه أثقلهم حملاً ورغم ذلك فليس له أن يأخذ من بيت مال المسلمين ما ليس له بحق، والخليفة أو الحاكم ما هو إلا أجير يرعى مصالح الأمة ويدافع عن حقوقها ضد من يحاول اغتصابها أو الاعتداء عليها، فما بالكم إذا كان حارس هذه الأموال والحقوق هو من يفرط فيها، من هنا جاءت تسمية حاكم الولاية في دولة الإسلام بأنه عامل ينفذ أوامر من ولاه في حفظ مصالح الأمة، ولأول مرة في تاريخ الأمم والشعوب تكون الرقابة من الشعب على الحاكم وليس العكس، وهذا ما فعله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، وكان الولاة في دولة الإسلام شديدي الحذر من الرعية لأنهم رقباء عليهم بأمر أمير المؤمنين، وكان رضي الله تعالى عنه يلزم جميع الولاة في موسم الحج أن يحضروا الحج كل عام والاشتراك في المؤتمر العام الذي يجمع فيه عمر الولاة والرعية، ويسأل الرعية عن أحوالهم مع ولاتهم وينتصف منهم لهم حتى أن عمرو بن العاص (رضي الله عنه) وهو واليه على مصر قال له: يا أمير المؤمنين لقد جرأت الرعية علينا، قال له عمر والله ليس لكم إلا هذا!. وكان عمر رضي الله عنه يعتبر نفسه مسؤولاً عن أي ظلم يوقعه أي وال من ولاته على أحد من الرعية لأنه هو الذي اختار هذا الوالي، فهل هناك حرص على العدل وحماية الرعية من ظلم الولاة كهذا العدل وهذا الإنصاف. إن هذه الصرامة التي يخاطب بها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ولاته، والمسؤولية التي وضعها في أعناقهم تجعل الذين يختارهم للولاية يفرون منها كما يفر الإنسان من الأسد لأنه رضي الله عنه لا يتساهل مع المقصر منهم، بل يشدد عليه العقوبة ليكون مثلاً وعبرة لغيره من الولاة، فيحذرون من غضبه، فرضي الله تعالى عنه، وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأعظمه.
مشاركة :