في العام ١٩٩٦ وقع انفجار هزّ مدينة الخبر شرق السعودية استهدف مجمعاً سكنياً للقوات الأميركية، وعلى الفور اتجهت أصابع الاتهام إلى إيران، وكانت واشنطن تحشد للرد على طهران وتنتظر إشارة فقط لمعاقبتها، وعلى رغم جميع أبعاد الحادثة إلا أن الرياض، كما بدا واضحاً آنذاك، حرصت على ألا توجه الاتهام إلى دولة أو جهة معينة ما لم تنتهِ من تحقيقاتها، ووردت على لسان وزير الدفاع السعودي آنذاك الأمير سلطان بن عبدالعزيز - رحمه الله- رسالة واضحة رداً على اتهامات أميركية لنحو ١٤ شخصاً بالتورط في الحادثة الإرهابية التي أودت بحياة ١٩ جندياً أميركياً وإصابة نحو ٥٠٠ آخرين بجروح، قال فيها إنه «ليس من حق الولايات المتحدة اتخاذ أي إجراءات حيال قضية تفجير الخبر»، موضحاً أن من حق الحكومة الأميركية أن تناقش قضية التفجيرات، لكن ليس من حق الأميركان اتخاذ أي إجراء في هذه القضية، مشدداً على أن مثل هذه الإجراءات من حق السعودية وحدها. ذلك كان رأي السعودية، وعبثاً حاولت واشنطن التدخل في سير التحقيقات، لكن الإرادة السعودية وحرصها على استكمال تحقيقاتهافي شكل مستقل، والتعامل بما يضمن أمن المنطقة، كما ظهر جلياً، منعاها من ذلك. إيران من جانبها كانت في أقصى درجات التوتر، فمن شأن أي تصريح سعودي أن يقلب موازينها ويحولها إلى أنقاض، لذلك سعت إلى التقرب من السعودية، وحرصت على التهدئة، فأوفدت (الرئيس الحالي) حسن روحاني إلى الرياض، وقدمت التعهد تلو الآخر وقتها، وحافظت السعودية من جهتها آنذاك على هدوئها بحكمة، لضمان عدم جرّ المنطقة بأسرها إلى حلبة صراع كما تبين، حتى إن المسؤولين الإيرانيين اختلفت لهجتهم عند الحديث عن السعودية، بل اعتبروا أن اتهامها بتفجيرات الخبر يردده أناس لا يريدون أن تنمو علاقات طيبة بين إيران والسعودية، وطبعاً بقية القصة معروفة ومعلنة بعد افتضاح التورط الإيراني بالقضية، إثر القبض على العقل المدبّر لتفجيرات الخبر أحمد المغسل بعد نحو ٢٠ عاماً من تاريخ وقوع الحادثة، والإعلان رسمياً عن التورط الإيراني قبل أشهر. لماذا أورد هذه القصة اليوم؟ أوردها لأن الرئيس الإيراني حسن روحاني، الذي جاء إلى الرياض مستجدياً مستعطفاً، خرج علينا أخيراً بعد أن أصبح رئيساً، ليبلغنا أن لبلاده حقاً كبيراً على السعودية والإمارات، وذلك لأن إيران منعت الرئيس العراقي الراحل صدام حسين من احتلالهما! روحاني كاذب، ونظامه فاسد، وأساليبهم مستهلكة تعدّاها الزمن بكثير، ولو كانت لدى إيران الفرصة للانقضاض على الخليج العربي بأسره لما ترددت لحظة، ولو كانت قادرة على لعب دور ما لمنعت احتلال الكويت وفازت بعلاقة متميزة ومستديمة مع دول الخليج، أو الكويت على الأقل، بخلاف أن المناخ في تلك الفترة لا يسمح بتقديم النصائح من عدو إلى عدو دفعه لشرب «كأس السم»، وعلى رغم ذلك بحثت عن موقف إيجابي واحد لنظام طهران يمكن ربطه بالعالمين العربي والإسلامي فلم أجد، كل ما وجدته تهديدات، مؤامرات، تجسس، تجييش مذهبي، وأخيراً حشد لقضايا هامشية وادعاءات حول القضية الفلسطينية. والأهم من كل ما سبق رعاية الإرهاب، وتأسيس ميليشيات إرهابية، وتمويل عناصرها وتدريبهم والتخطيط لهم، تلك هي إيران منذ أن تسلّم الملالي السلطة، واليوم لا يختلف كثيراً عن الأمس، فها هي طهران تهدد بإغلاق مضيق هرمز، وتهدد دول المنطقة، بينما في خطابهم هم «حمامة سلام»، لكن هل تستطيع إيران بقيادتها لمحور الشر في المنطقة (تركيا – قطر) تنفيذ أي من تهديداتها؟ وهل تستطيع دول المحور أن تساندها وتقف معها مثلما يدّعي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان؟ بكل المعايير لا تستطيع إيران أن تنفّذ أياً من وعودها، هي تدرك ذلك، وواشنطن أيضاً تدرك ذلك، أما بقية دول المحور فهم يأملون فقط أن تقف طهران بوجه واشنطن، لكنهم أضعف من أن يساندوها، وسنوضح لماذا. قبل انسحاب ترامب من الاتفاق النووي أرعدت إيران وهددت بالتخصيب وبالذهاب إلى أبعد من ذلك، لكن لا شيء من هذا حدث، ثم تم تصنيف الحرس الثوري منظمة إرهابية، أيضاً هددت، لكن ردّ فعلها لم يخرج عن تغييرات لأحجار الشطرنج في هيكل المنظمة الإرهابية، وتصريحات عدائية للاستهلاك الإعلامي الداخلي فقط، ثم تم تشديد العقوبات ومنع الإعفاءات من العقوبات المفروضة عليها، فجنّ جنونها إلى اليوم، لكنها أيضاً لا تملك فعل شيء، بل إنها باتت أضعف بعدما اتضح تراخي الموقف الأوروبي، وحتى الصيني والروسي، الذي سعى أن يكون محايداً قدر الإمكان، ولمصالحه قد يكون أكثر من يقف موقف المتفرج إذا ما سعت إيران في شكل أو آخر لتعطيل الملاحة في مضيق هرمز، فالمعروف أن الممرات المائية تحت حماية القوات الأميركية، بالتالي لا واشنطن تريد أن ترتكب طهران حماقة من هذا النوع، حتى وإن كانت متأهبة لتوجيه ضربة عسكرية محدودة لمواقع استراتيجية، ولا طهران تود أن ترتكب هذه الحماقة وتعطي واشنطن الفرصة التي تعرف سلفاً نتائجها. نأتي الآن للسيد أردوغان، فهذا الرجل كانت لديه فرصة لفعل الكثير لو أنه يلتزم الصمت، لديه هواية أن يضع بلاده في ورطة، لذلك ما إن يخرج من واحدة حتى يسقط بأخرى أسوأ، فقد خرج على الفور بعد تصنيف الحرس الثوري الإيراني مندداً، قد نتفهم أن ذلك موقف صوري الغرض منه الإبقاء على علاقة المنفعة مع طهران، لكنه لم يقف هنا، بل خرج رافضاً إعلان تشديد العقوبات على طهران، مؤكداً أنه لن يلتزم بها، وهنا أيضاً قد نتفهم دوافع هذا الرفض، فبلاده التي تعاني مشكلات اقتصادية جمّة، جراء الفساد، والاستحواذ على الاقتصاد التركي لمصلحة أقاربه، تشكل إيران مصدرها الأول للطاقة، بما يتجاوز ٤٤ في المئة من مجموع إمدادات النفط، و١٧ في المئة من إجمالي واردات الغاز، إلا أن العقوبات التي فرضتها واشنطن لا تقتصر على تركيا في ظاهرها، بل هي عامة، وإن كانت في أعماقها تمسّها – أي تركيا- في شكل مباشر، لدرجة تبدو وكأنها عقوبات ضدها أيضاً، وهذا ما أربك حسابات أردوغان، فهو يدرك أنها عامة، ويدرك أيضاً أن واشنطن لن تتهاون في التعاطي مع من ينتهك تلك العقوبات، ولعله يعلم أيضاً أن واشنطن تتمنى من ينتهك تلك العقوبات لتظهر مدى جديتها في هذا الشأن تحديداً. جميعنا يعلم حجم الأزمة الحالية بين واشنطن وأنقرة، على الأقل في ما يتعلق بأزمة صواريخ إس ٤٠٠، فواشنطن حذّرت مراراً الحكومة التركية من الصفقة، لكن هذه الأخيرة لم تتغاضَ عن تلك التحذيرات فقط وتتجاهلها، بل ذهبت أبعد من ذلك، إلى دفع جزء من قيمتها، لذلك هي اليوم في مأزق كبير، ليس لأجل التهديدات الأميركية بإلغاء صفقة إف ٣٥ فقط، بل بما يتبعها من امتيازات ستفقدها تركيا حال إلغائها، وفي علاقتها مع الروس والدفعة التي قدمتها. محور الشر يعيش أسوأ أيامه، طهران اليوم لا تملك الكثير من الأوراق؛ فالعراق الذي كانت تعتبره منصة لإطلاق سياساتها بات أكثر استقلالية، ويسعى للنأي بنفسه عن الخلاف الإيراني- العربي والإسلامي، وفي سورية أصبح الروسي هو الآمر الناهي، وفي لبنان أيضاً تقف إسرائيل بكل عتادها للإجهاز على «حزب الله»، وهذا ما ورد على لسان أمينه السيد حسن نصر الله، أما في اليمن فعناصرها عاجزون، لم تعد لديهم المساحات الكافية للمناورة وتمرير أجندتها. إذاً طهران تعيش مرحلة تقليم الأظافر، والعقوبات ستشكل أمامها عائقاً كبيراً لتمويل أجنحتها الإرهابية، بل إنها ستضعها أمام خيارين دولة أو لا دولة، بينما أنقرة ليست أفضل حالاً، فهي تدفع ثمن رعونة سياساتها، سواء في الداخل أمام مواطنيها أم استعداء الخارج بتصريحات رئيسها وتناقضاته، ما قلّص من حضورها ونفوذها، وجعلها دولة تعيش على الأزمات وتقتات منها، أما قطر، ثالث محور الشر، فلا أعتقد أنها تستحق أكثر من بضع كلمات؛ فـ «العمامة والطربوش استحوذا عليها، ولم يبقيا شيئاً من عروبتها، وها هي تبحث عن الدفء في أحضان كل منهما».
مشاركة :