التاريخ وفلسفته.. من ابن خلدون إلى توينبي

  • 5/4/2019
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

استقلال العلوم عن الفلسفة لا يعني استغناءها عنها فعلم التاريخ يلتمس الحكمة من الفلسفة. ويتردد كثيراً على ألسنة العامة عبارات مثل التاريخ يعيد نفسه، سَجِل يا تاريخ، هذا الحدث للتاريخ، اليوم يوم تاريخي، وهي عبارات تدعو إلى وجود أحكام عامة تحرك التاريخ وفلسفة تُؤخذ من أحداثه. لكن ما هو موضوع التاريخ؟ لمن يؤرخ المؤرخ؟ الإجابة ببساطة: لمَن دخلوا التاريخ ولعبوا دوراً فيه ومَن ثم يحركون مسار أحداثه. ولكن مَن الذين حرَّكوا التاريخ وحدَّدوا مساره؟ هل هم الساسة والقادة أم هم خلاصة فكر الأمة ممثلة في علمائها وفلاسفتها ومفكريها وشعرائها وفنانيها وقبل هؤلاء أنبيائها؟ هل يقتصر التاريخ على الجانبين السياسي والعسكري باعتبارهما أبرز أحداثه أم يؤرخ لفكر الأمة المعبر عن شخصيتها؟ هل يؤرخ لشخصيات أم حضارات؟ لأفراد أم لأمم؟ ظهر في العصر الحديث أن انتقل التأريخ لأفراد إلى التأريخ لحضارات وظهر مصطلح جديد يعرف بفلسفة الحضارة. ويعتبر ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع والتاريخ أول مَن تحدث عن فلسفة التاريخ من دون إطلاق الاسم، وفولتير في الحضارة الغربية هو أول من أطلق هذه التسمية. يقول ابن خلدون عن التاريخ: "ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى". والعبارة تفيد أن التاريخ مجرد أخبار وحوليات وتقويم. ثم يقول: "وفي باطنه نظَر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيقٌ وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميقٌ، فهو لذلك أصيل وللحكمة عريق وجدير بأن يعد في علومها خليق". وتشير هذه العبارة إلى فلسفة التاريخ التي هي على حد تعبير ابن خلدون أصيلة في الحكمة أو الفلسفة. إذن للتاريخ ظاهر وباطن. وباطن التاريخ وهو معرفة أسباب الأحداث ونتائجها وأثرها وحركة التاريخ وقيام الدول وسقوطها هو جوهر فلسفة التاريخ. فقد أوضح ابن خلدون أن الدول مثل الإنسان تمر بثلاث مراحل: نشأة وازدهار وقوة ثم ضعف وسقوط. ولقد تعلم ابن خلدون من المنهج القرآني في التأمل في الظاهرة ومعرفة أسبابها وأسباب نزول الآيات القرآنية وقوة الأمم وضعفها في القصص القرآني، فترجمَ ذلك على فلسفة التاريخ وكيفية فحص الحدث والتعامل معه والسعي للوصول إلى الأسباب الكامنة وراءه والقوانين التي تحكم الحركة التاريخية. ففلسفة التاريخ تعني إعمال التفكير في الأحداث التاريخية واستنتاج العبرة والعظة منها وامتلاك المؤهل لاستيعاب الحاضر وتفسيره والتنبؤ بتداعياته ومآلاته وعواقبه. فالتاريخ هو المفتاح الكبير لحل المشكلات المعقَّدة والمدخل المأمون للقوانين والسُنن التي تعين على حل تلك المشكلات وليس مجرد سير الأبطال والزعماء. والخلاصة هي أن فلسفة التاريخ عند العرب كما وضَّحها ابن خلدون تقوم على أن التاريخ ينفع في العظة والعبرة. فنحن ندرس التاريخ الخاص بالدول والملوك لنتعلم، وندرس سير الأنبياء لنتأسى بهم، وندرس تجارب الأمم لنرى ما وقعت فيه من أخطاء لننجو بأنفسنا عن المذلَّات ومواطن الضرر. لهذا نجد أن ابن خلدون يسمي كتابه "العبر في ديوان المبتدأ والخبر". أما عن فلسفة التاريخ في الغرب فقد أوضح فولتير قصور الكتابات التاريخية حيث قال: "إن بعض المؤرخين يهتم بالحروب والمعاهدات ولكني بعد قراءة وصف ما بين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف معركة وبضع مئات من المعاهدات لم أجد نفسي أكثر حكمة من قبلها حيث لم أتعرف إلا على مجرد حوادث لا تستحق عناء المعرفة". وقائع التأريخ تعوزها الحكمة ومساره ينقصه إدراك المغزى أو المعنى وذلك ما أغفله المؤرخون واهتم به فلاسفة التاريخ فوجد فريق آخر في مساره تعاقباً دورياً للحضارات كتعاقب الليل والنهار أو الفصول الأربعة أو سائر ظواهر الكون، ووجد فريقٌ آخر مساره عناية الله بالإنسان، بينما اعتبره فريق ثالث سجلاً لإنجازات الإنسان قدماً إلى الأمام. وفلسفة التاريخ وحركته عند الفيلسوف الألماني هيغل في محاضرته الشهيرة "فلسفة التاريخ" بعد ابن خلدون بأربعة قرون وربع القرن قال فيها: "إن تاريخ البشر كله يمكن أن يوصف بأنه عملية طويلة استطاعت البشرية خلالها أن تحرز تقدماً روحياً، وهذا التقدم هو ما استطاع العقل البشري أن يحرزه في طريق معرفته لنفسه". وقال أن التاريخ يسير وفقاً لخُطة ومهمة المؤرخ الفيلسوف هي معرفة هذه الخطة. وعجز المؤرخون في الكشف عن خطة التاريخ واكتفوا برواية الأحداث. ووجد آخرون مفتاح التاريخ في القوانين المختلفة فذهبوا إلى أن الطبيعة تعمل بموجب هذه القوانين. أما تفكير هيغل فيقوم على الإيمان بأن التاريخ هو تحقيق الغاية التي أرادها الله من وراء الخلق. وقال هيغل أيضاً: "إن بومة مينرفا لا تحلق إلا عند الغسق"، وهي عبارة تفيد أن الحكمة تلقن في أحلك الأوقات وليس أعظم حكمة من التي يستفيدها الإنسان من التاريخ. وقاس شبنغلر الحضارات على الكائنات الحيَّة، فوجد فيها ميلاداً وشباباً وشيخوخة وفناء كما تحدث عنها ابن خلدون. وتحدث توينبي عن نظرية التحدي والاستجابة وان انجازات الحضارات نتيجة تحدٍ قوي واجهته الشعوب. كثيراً ما نردد مقولة (حكم التاريخ) ونتصوره بل نتخيله شيخاً مهيب الطلعة ممسكاً بيده قلماً يسطر به على قرطاس الأبدية حكمه العادل على مَن دخلوا التاريخ. فهل مِن حق المؤرخ أن يرتدي زي القضاة ليحكم على أفعال شخصيات التاريخ؟ أم أنه يقف أمام مآسي التاريخ وما أكثر مآسي البشر في التاريخ. هل يجب عدم الاكتراث باسم الحياد التاريخي؟ وهل يكتفى المؤرخ بالحياد أم عليه أيضاً أن يبرر عدم أخلاقية بعض صانعي التاريخ؟ في الحكم على الأحداث والأشخاص التاريخية يرى بعض المؤرخين أن يعلق المؤرخ على سلوك شخصيات نتيجة استثارة هذا السلوك للنزعة التقييمية في الانسان مثل ادانة توينبي لأخلاق موسوليني في حرب الحبشة 1935م. أو قول فيشر عن نابليون أنه متعجرف مغرور وذلك على أساس القول بأن واجب المؤرخ أن يقيم أعمال بعض (العظام) على ما ارتكبوا من أهوال وفظائع ومذابح. ويقول آخرون يتزعمهم كروشيه: "إن إدانة المؤرخين للشخصيات التاريخية فيه تجاهل لأصول القضاء". ذلك اننا في محاكمتنا العادية نحاكم متهمين أحياء فلا يصح إذن أن نستدعي مَن أصبحوا في ذمة التاريخ للمحاكمة؛ لأنهم أصبحوا ينتمون إلى الماضي الذي يرقد في هدوء. ويكفي أن يصبحوا موضع دراسة التاريخ في محاولة تفهم دوافع أعمالهم من دون إدانة أو تبرئة. والمؤرخ الذي ينصب نفسه قاضياً يدين هذا ويبرئ هذا معتقداً أن هذه هي وظيفة التاريخ، يفتقد حاسة التاريخ ولا يدرك أن صدور أحكام أخلاقية يخرجه عن الموضوعية". وهو بذلك يرفض أن يحكم المؤرخ على الأشخاص التاريخية بل يعرض حيواتهم بموضوعيه ثم يترك الحكم للقارئ ودارس التاريخ. وتواجه الحيادية مشكلة وهى الذاتية الخاصة بالمؤرخ، إذ أن التاريخ يكتبه المنتصرون. ويبقى أن البحث عن فلسفة التاريخ يحتاج إلى المزيد من فلاسفة التاريخ للوقوف على محركاته والعبرة والعظة والدروس المستفادة من دراسته.

مشاركة :