كبار المواطنين هم سارية الوطن وشراعه المخضب بالتقاليد والإرث العريق، مداد الأخلاق وحبر الوطنية الخالصة، فقد كرسوا حياتهم للنهوض بالوطن وبناء أجيال تنبض قلوبهم بالهوية، تقاطعات جيل ما بعد الألفية تشد وثاق سفنها «أدقال» أجيال الاتحاد لتنقلها إلى شواطئ الثقافة العالمية وإيقاعها الذي يتجلى بالمعاصرة والمحافظة على الموروث، فنحن لا نعيش بين زمنين، بل نصنع لحظاتنا بين ذكريات استثنائية وإنجازات تستشرف المستقبل. دقات منتظمة الإيقاع أناملها تتحرك في كل الاتجاهات، وكأنها تمشط شعر الجريد بحنو الأمهات، وهي تكرر بتواضع شديد: «ما هي إلا هواية عشقتها كغيري من أبناء جيلي!»، وبمهارة حرفية عالية لا تخطئ الدرز والالتفاف يميناً ويساراً، توليفة من الألوان تتراقص أمام الوالدة فاطمة المرزوقي، التي امتهنت «سف الخوص» على ضفاف الخور وإيقاع السفن العابرة، وتنقل ببراعة وهي تقيس بالنظر طول السفة بالباع، والباع ما يقع بين إصبعي الوسطى لليدين، حينما يفرد الإنسان يديه لأقصى مدى على جانبيه أي ما يساوي تقريباً مترين، كما تقاس أيضاً بالشبر وطوله تقريباً من 22 - 25 سم، وهي المسافة التي تقع بين البنصر والإبهام عند فرد أصابع راحة اليد. استقبل راشد باليوحا وخليفة الحمادي، إلى جانب ميثاء عبدالله، الوالدة فاطمة المرزوقي بكثير من الترحاب والامتنان لزيارتها التي تنسج جسوراً للتواصل بين جيلهم وجيل كبار المواطنين المعتق بالقيم والتقاليد العريقة التي بفضل محافظتهم على تراثها ما زالت باقية إلى الآن. بعد إنساني وفي السياق، أكدت الوالدة فاطمة أنها لم تتوقف منذ أكثر من 40 عاماً عن مزاولة مهنتها، ولكنها بالتعاون مع هيئة دبي للثقافة طورت نشاطها من خلال إقامة ورش ودورات تدربية، تؤهل الشابات لفهم واستيعاب أهمية هذه الحرفة المحلية، وهي اليوم لم تستطع أن ترفض هذه الدعوة، التي تجدد الحنين إلى خور دبي والحياة على ضفافه عبر متحف الشندغة، الذي يعانق مياه الخليج ويتدفق بذكريات من عبور بين حاضرها وماضيها بشتى مكوّناته المرجعية والثقافية، التي تنفذ في المخيّلة، وتخترق حدود الزمان حين صنعت دبي الفرق انطلاقاً من ساحلها، متنقلة بثبات بين فصول نهضتها وروعة إنجازاتها كمدينة ذكية تتحدى الخيال فكراً وطموحاً ورؤية، لتضيف اليوم أبعاداً أخرى لمنظومة ثقافية راقية لم تهمل البعد الإنساني والحضاري المرتبط بترسيخ مواقع عصرية بجذور تاريخية راسخة على امتداده كمساحة حرة للتأملات وتجديد الطاقات والإبداع. طراز عالمي يلتقط راشد أطراف الحديث وهو يجول بصحبة الوالدة فاطمة أروقة المكان قائلاً: «تشتمل مجموعة المتحف على تعبيرات ملموسة وغير ملموسة عن التراث والثقافة في دبي ودولة الإمارات، إذ سيكتشف الزوار عناصر ذات أهمية ثقافية كبرى، بدءاً من القطع الأثرية والأعمال الفنية إلى أرشيف الصور الفوتوغرافية والأفلام، وصولاً إلى محتوى تعليمي غني، كل ذلك في موقع تاريخي في قلب منطقة دبي التاريخية، بطراز عالمي، يربط المواطنين والمقيمين والزوار بالتراث الغني لإمارة دبي، ويحتضن القيم التقليدية للإمارة وتواصلها عبر الأجيال، وصولاً إلى الهوية الإماراتية المعاصرة. ويتيح المتحف للمواطنين والمقيمين والزوار فرصة الاحتفاء بالتراث والثقافة المحليين، ضمن بيئة تفاعلية وتشاركية تمنح الجميع الفائدة والمتعة». أنامل الأمهات وعن حرفة سف الخوص، توضح الوالدة فاطمة أنه في الماضي، كانت النشاطات اليومية للنساء محددة ومعروفة داخل المنزل، وبسيطة في تفاصيلها التي تبدأ من الفجر بين تنظيف المنزل وجلب الماء وطحن الحبوب، وخلال منتصف النهار وعند انتهاء تلك الواجبات، تبدأ النساء بالتجمع في منزل إحداهن، وتكرر تلك الزيارات يومياً مع اختلاف المنازل، وهي بكل تأكيد جلسة يتخللها الحديث والسمر وسط قيامنا ببعض الحرف اليدوية، من خياطة وتلي، إلى جانب «سف الخوص»، الذي كان وسيلة مهمة من وسائل تنفيذ ديكور البيت الإماراتي، والمعتمدة بشكل تام على ما هو متوافر من منتجات البيئة المحلية. براعة التصميم تعتقد الوالدة فاطمة أن حرفة «سف الخوص» من أكثر الأعمال اليدوية التي تحتاج إلى مهارة وصبر، نظراً للدقة العالية، التي تغلف تصاميم الحصر والسجاد ومفارش الطعام، من خلال ضربات خفيفة تغزل الخوص وتحرك مساره تصاعدياً في بناء الشكل المطلوب، ومن الغريب أن نساء جيلنا لم يجدن صعوبة في ذلك، بل على العكس تماماً، أظهرن براعة وابتكاراً في تنفيذ تصاميم باتت اليوم مضرب مثل وعنواناً لتراثنا الحي، مَنَحْنَها مسميات ووظائف عملية تستحوذ على الاهتمام في ركن ما من المنزل. وتشير الوالدة فاطمة إلى أنه توجد أدوات منزلية كثيرة تستخدم بها أجزاء النخلة المختلفة، حيث تصنع القراقير للصيد وكذلك الأقفاص والكراسي، كما عرفت أنواع عدة من الأدوات المنزلية منها ما يستخدم لحفظ المواد الغذائية مثل السلال التي تأتي بأحجام مختلفة، و«المكبة» مثلثة الشكل وتستخدم لتغطية الأطعمة وحفظها من الحشرات والغبار، و«الجراب» الذي يكون مستدير الشكل عميقاً يحفظ فيه التمر، ومثل «الضميدة»، التي تكون أصغر حجماً ويحفظ بها التمر كذلك، أما «المخرفة» فهي سلة من الخوص يعلقها الرجل في رقبته حين يصعد النخل لجمع التمر. وتعددت الأدوات التي تصنع من الخوص منها «المشب»، وهو قطعة دائرية الشكل تستخدم في إيقاد النار وإبقائها مشتعلة، أما «المهفة» فهي مروحة يدوية تختلف أحجامها وتستخدم للتهوية وترطيب الجو. ديكور تراثي وتوضح الوالدة فاطمة أن بنات جيلها تعلمن منذ الصغر الاعتماد على النفس والتكيف مع مخرجات الحياة المجتمعية، التي تضعهن بشكل مباشر أمام اتخاذ القرارات وتصريف شؤون المنزل واحتياجاته، بما توافر لديهن، لذلك أيضاً كان «سف الخوص» ذا أهمية كبيرة حتى مستوى ابتكار أهم الأدوات المنزلية، التي يقدم خلالها الطعام، كما قمنا بتشكيل أنواع متعددة من السلال ذات النقوش والألوان المتعددة في غرف النوم لترتيب الملابس، وحفظ المتعلقات الشخصية. السفة تشير الوالدة فاطمة المرزوقي إلى أن النساء في مواسم الرطب كُنّ يصنعن الكثير من أدوات الخوص ليعطينها هدايا للمقيظين لديهم، وكانت ذوات المهارة عالية يقمن بـ«سف» كميات كبيرة، ويبعن ما يفيض عن حاجات بيوتهن. وكانت المرأة تعلم بناتها السفافة معها، فهن يجلسن حولها ليعرفن كيفية استخدام الخوص أو تحضيره وكيفية عمل الضفيرة منه. وتختلف استخدامات سعف النخيل في السفافة، فالذي في قلب النخلة أو قمة رأسها يستخدم في صناعة السلال والحصران، أما السعف الكبير الأخضر فيستخدم في السلال الكبيرة والمكانس، وتجهز السفة بإجراء تداخل بين الخوص بعضه ببعض بالأصابع بعملية دقيقة وجميلة، وكلما دخلت إحدى الخوص واشتبكت مع غيرها ولم يبقَ منها إلا رأسها يضع الخواص خوصة أخرى مكانها وهكذا، حتى تتكون لديه «السفة»، وهي عبارة عن جديلة خوصية مسطحة عريضة وطويلة يظل الخواص يسفها حتى ينتهي من إعدادها كاملة حسب مواصفات الطول الذي يريده أو الإناء الذي يريد صنعه، ولكل إناء خوصي طول سفة معين، بعد ذلك يتم خياطة أطراف السفة مع بعضها. أصباغ طبيعية حول تقنية ومراحل هذه الحرفة، تقول الوالدة فاطمة: «عادة ما يتم تجهيز الخوص بعد أن يؤخذ من الجزء الأعلى من النخلة، نظراً إلى كونه أكثر ليونة في التشكيل، وبعد مرحلة تنظيف الخوص وغسله يتم تشريحه لشرائح رفيعة ثم تغمس في أصباغ معينة، وهي أصباغ طبيعية، ثم تترك لتجف ثم يُعاد غسلها مجدداً لتكتسب مرونة وليونة أيضاً، حتى لا تترك الصبغة أثراً على الأصابع أثناء التجديل، وبعد الانتهاء من عملية «السفه»، أي عملية تشابك الخوص والتحامها بعضها مع البعض بطريقة فنية متناغمة، تبدأ مرحلة الخياطة، أي ربط وتركيب الجدائل بعضها مع البعض، وفقاً للشكل المطلوب والأداة المرغوب صنعها. مهارة كل قطعة من الخوص المغزول تعتمد على غرزة واحدة، إلا أن تقنية العمل تختلف من أداة إلى أخرى، وهذا يرجع إلى مهارة الحرفي ومدى قدرته على نسج وحياكة قطع تؤدي دوراً في طبيعة هذه الحياة القديمة، ومن هذه المنتجات التي يمكن صناعتها بهذه الجدايل، السرود «أي السفرة»، وهي عبارة عن قطعة من الحصير عادة ما تكون دائرية الشكل، ويلتف حولها الأفراد لتناول الطعام، ويتم تشكيل الجدايل بطريقة دائرية للحصول على الحجم المطلوب.طباعةEmailÙيسبوكتويترلينكدينPin Interestجوجل +Whats App
مشاركة :