كلمات التشجيع تفجر الإبداع

  • 5/6/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

أنت عبقري يا عبدالوهاب، جملة بسيطة خلقت كاتبا ومفكرا وازنا في الوطن العربي، كان الدكتور عبدالوهاب المسيري قد ذكرها في مذكراته، وأعقبها بكلمات: كنت لا أنجح في دراستي إلا في الدور الثاني دائما، حتى وصلت إلى المرحلة الثانوية وإذا بمدرس التاريخ يقول لي أنت عبقري يا عبدالوهاب، فتغيرت حياتي منذ ذلك اليوم، فلا أدري هل اكتشفني حقا أم كان من باب التشجيع وأنا صدقته، أيا ما كان الأمر فقد تغيرت حياتي منذ ذلك التاريخ. قدم الدكتور المسيري رؤى فكرية وفلسفية فريدة للإنسان وللتاريخ، للعالم أجمع، فكك مفهوم الجوامد في الدين، وقدم مفهوما جديدا للفكر الحر، اعتبر الدين أحد أهم مكونات الفكر الشعبوي، وليس فقط أفيونة الشعوب، كما تعد موسوعته عن اليهود واليهودية والصهيونية مرجعا علميا وفكريا ذا قيمة كبيرة، إلى جانب تفاصيل كثيرة من التاريخ الثري للرجل، وسواء اتفق معه البعض، أو اختلف معه آخرون فسيظل علامة فارقة في تاريخ مصر الحداثي. لست بصدد الحديث عن المفكر الدكتور عبدالوهاب المسيري، لكنني فقط أؤكد أن الكلمات الرقيقة والمعاني السامية من شأنها تحويل دفة كافة الأمور دائما، فقد تفجر طاقات إبداعية كبيرة وقد تخلق أناسا جددا، وهو ما تأتى بتغيير مساره من طالب كسول ينجح ليتزحزح اسمه فقط من كشوف الراسبين، إلى عبقري حقيقي. اعتادت إحدى صديقاتي، مهندسة وأم لثلاثة أطفال، أن تجتمع بأبنائها على وجبة العشاء، يتجاذبون أطراف الحديث ويقص كل منهم كيف كان يومه، وما الذي اكتسبه خلال اليوم من معارف وعلوم وتجارب بشرية حية، حتى زوجها الضابط، رغم انشغاله يحرص على هذا اللقاء دائما، مهما كلفه الأمر، جميعهم يجهر بما فعله خلال اليوم حتى وإن كان سلبيا أو خطأ كبيرا، الجميع يعترف دون مواربة، إلا أن الفتاة الصغرى غالبا ما تختار الصمت بديلا عن الكلام والمصارحة، تكتفي بهز الرأس فقط والمشاركة الباهتة في النقاشات، دون تقديم ما يفصح عن مكنوناتها. ظلت الفتاة تلوذ بالصمت، لا تعرف ماذا تفعل، ولا كيف تكتشف ما بداخلها، لكنها بالسؤال المباشر عن أحوالها بكت بأن صديقتها نور أفضل منها، فهي تعزف الموسيقى في طابور الصباح، وزميلها عمر عبقري في الرياضيات وحل المسائل الصعبة، حتى تقى وحبيبة التوأم تغنيان معا بطريقة مبهرة، لكنها وحدها لا تجد طريقا لاكتشاف مواهبها وما الذي يمكنها فعله. ثمة أمور تخفيها الفتاة، لا تحب، أو تضطر، وربما لا تسطيع الإفصاح عنها، لكن حصافة الأم أدركت أن شيئا ما يجبرها على الصمت. الطفل يسعى للتقدم وإحراز نتائج باهرة بغرض الوصول إلى الصورة التي وضعها له هذا المشجع، ويسعى للفوز بلقب مبدع عن جدارة، فيبذل قصارى جهده للوصول إلى الهدف، ومن المحمود في هذا الوضع تحفيز الكفاح والمثابرة ضكحت الأم باطمئنان، وقصت على طفلتها قصص نجاح كثيرة لتحفيزها، دخلت غرفتها وأحضرت بعض ورقات لرسومات لا تخلو من براءة الطفولة، قالت لها أنت مبدعة حقيقية، لكن تنقصك الخبرات، والاختلافات الفنية المكتسبة من المران والممارسة للفن باحترافية لا تخلو من إبداع حر، تزينها دراسة أكاديمية، ويمكنك الالتحاق بمدرسة صيفية، أو ورش عمل فنانين كبار لتعليم فن الرسم، وكما يعزف أخوك على الغيتار بعد التعلم في معهد الموسيقى، يمكنك أنت أيضا فعل الكثير. النجاح عدوى والفشل أيضا عدوى، وهذا ما دفع الفتاة إلى تقليد نجاحات نماذج جيدة، جديرة بالاحترام والتقدير. بقي أن أكشف عن أمر هام وهو مشاركة الفتاة منذ فترة وجيزة في حدث كبير أقيم بمدينة النوبة للفنون الحرة وتشجيع ثقافة التربية على تذوق الفنون خارج نطاق الدراسة لمجرد حصد الدرجات. خلاصة الأمر أن التشجيع على الأفعال السوية والإبداع من شأنه تغيير مسار حياة كثيرين ودفعهم إلى النشاط والسعي لتحقيق الحلم، ثمة أصابع نريدها أن تشير لنا على ما نستطيع فعله، ليس عن ضعف، وإنما عن تشتت فكر الطفل في هذه المرحلة التي ربما تتسع لتشمل مراحل الصبا والمراهقة أو حتى الشباب. من وجهة نظري أن الحد الفاصل في تغيير الشخصية بعد سماع كلمات الإطراء والاستحسان يخضع لمسارين مهمين للغاية: إما أن يسعى الطفل للتقدم وإحراز نتائج باهرة بغرض الوصول إلى الصورة التي وضعها له هذا المشجع، ويسعى للفوز بلقب مبدع عن جدارة، فيبذل قصارى جهده للوصول إلى الهدف، ومن المحمود في هذا الوضع تحفيز الكفاح والمثابرة وترسيخ صورة ذهنية باكرة في مرحلة الطفولة عن العمل الجاد من أجل تحقيق الذات، وإما أنه يكون مبدعا حقيقيا، لكنه فقط كان يحتاج إلى من يشد فتيل قنبلته الإبداعية ويفجر طاقته الرائعة الكامنة خلف الصمت، وتثبيط الهمم. الكثير من أبنائنا في البيوت، المدارس، النوادي الرياضية، مقاعد الدراسة النظامية أو الحرة لديهم مقومات شخصية رائعة، وقدرة فائفة على الإبداع لكنهم يحتاجون إلى من يثق بهم وبقدراتهم، إلى من يفتح القمقم للجني الساكن داخلهم حتى ينطلق. الحق في الإبداع فريضة لا تقل قدسية عن الحق في الحياة ذاتها، فعل التميز والفرادة لا يمكن احتكاره في أناس دون غيرهم، فيجب أن يترك دائما حرا، مباحا، مشاعا للجميع، حتى تظل السماء مفتوحة، ملونة بألوان قوس قزح.

مشاركة :